نقد
القصّة القصيرة جدّا في المغرب بين الكونيّة و الخصوصيّة
فاطمة بن محمود
إذا اعتبرنا اللغة كائنًا حيًّا فإنه يمكننا اعتبار الأدب بما هو أحد التعبيرات اللغوية بدوره كائنا حيّا بما أنه ينشأ و ينمو و يترعرع و قد يخفت و ربما يتلاشى .. من هذا المنطلق يمكن اعتبار القصة القصيرة جدا وليدا أدبيا يعبّر بشكل ما عن الحراك الاجتماعي و عن ثراء المشهد الأدبي و انفتاحه و تنوعه..
و من هذا المنطلق أيضًا يمكن أن نفهم ظهور القصة القصيرة جدا في العالم العربي وازدهارها في الساحة الأدبية المغربية. فكيف تفاعلت القصة القصيرة جدا في المغرب مع بيئتها المحلية و بأي معنى ظلت تعكس كونيتها ( مقاربتي هذه تشتغل على عيّنة من الاصدارات في القصة القصيرة جدا ).
الكونية :
الكونية و أقصد بها الدلالة القيمية التي تجعل من البشر يلتقون حول مشروع أخلاقيٍّ و ثقافيٍّ واحدٍ يجمع بينها بإبراز ما يوحّدها كأن نتحدث عن مبادئ صالحة لكل البشر في كل مكان ( مثل كونية حقوق الانسان و الحرّيات والثقافة و الديمقراطية ..) . اذا كان د. جميل الحمداوي في مقالة له بعنوان ” مقومات القصة القصيرة جدا عند يوسف حطّيني ” يقدّر موقف هذا الأخير الذي يعتبر أنّ ” القصة القصيرة جدا، بوصفها نوعا أدبيا له أركانه وتقنياته، لا يعيبها أن تكون متأثرة بأي أدب عالمي، ولكن واقع الحال يبعد هذا الاحتمال من وجهين: الأول وجودها فعلا في تراثنا العربي الغني بأشكال مختلفة. الثاني وجود سرد عربي متميز حديث صالح لأن يتطور وينتج أشكالا سردية جديدة.” و لكن د. جميل الحمداوي في نفس المقالة يستدرك ذلك و يوضّح أن مصطلح القصة القصيرة جدا كان موجودا في الثقافة الغربية بهذا الاسم، وخاصة في آداب أمريكا اللاتينية، قد استعمله إرنست همنغواي سنة 1925م. وهذا دليل على أن فن القصة القصيرة جدا فن وافد علينا ، على الرغم من جذوره التراثية وذلك على مستوى الوعي والمقصدية والنيّة، و هذا يعني أن القصة القصيرة جدا غربية النشأة والاصطلاح.” و لأننا أصبحنا نتحدث عن مواطن عالمي يمكن أن نقول أيضا بمعنى ما أنه يجوز أن نتحدث عن كاتب عالمي .. كيف ذلك ؟
1 / مركزية الانسان / الكاتب :
في المنظومة الليبرالية الاقتصادية المهيمنة على العالم الآن نلاحظ وجود الإنسان بما هو مركز العالم و قد ساهمت العديد من التعبيرات الاجتماعية والثقافية في نحت هذا الإنسان بما هو معطى أساسي و جوهري و اعتبار الفرد مركز العالم و المجتمع .. وربما ينعكس هذا التصوّر في المستوى الأدبي و تحديدا في القصة القصيرة جدا فنحن نلاحظ هيمنة الأنا بما هو الفرد الواحد على غالبية المواضيع وحتى عندما نغادر الأنا فلنتحدث عن هو / الآخر و هذا يعني أننا مازلنا خاضعين لسيطرة الانسان الفرد .. تبدو مركزية الأنا من خلال هيمنة الذات الساردة في كامل الكتاب القصصي كما يبدو عند عبد الحميد الغرباوي في كتابه ” قال لي و مضى” و ايضا عند عبد الله المتقي في كتابه ” مطعم هالة ” و السعدية باحدة في كتابها ” وقّع امتداده و رحل” و خاصة في الكتاب القصصي ” قوس قزح ” لحسن برطال عندما تصبح الأنا الساردة صاحبة الحكمة و الحقيقة المطلقة . هيمنة الفرد و استحواذه على كل الأحداث و المواضيع بشكل مبالغ فيه إنما يعبّر : سيكولوجيا : على أزمة الذات و عدم قدرتها على التصالح مع الآخر وعجزها عن مغادرة مساحة المخاطب و الانفتاح على عناصر أخرى تصنع بدورها الحكاية و توسّع مجال الدلالة .( نجد في تاريخ الثقافة اليابانية تمركز الطبيعة كتيمة في المواضيع الادبية). و أزمة الذات تعكس ضيق الواقع من جهة و غربة الأنا من جهة أخرى. و قد يفسّر هذا بالخلفية التي تنطلق منها شخوص كثيرة في القصص القصيرة جدا من ذلك الشعور بالفراغ و البؤس، من جهة لفقدان سند حقوقي يشعرهم بذواتهم ككائنات لها حق الوجود و حرية التفكير و التعبير و الاختلاف و من جهة أخرى معاناتهم اليومية في واقع يزخر بالظلم و الفقر المدقع، و هذا ينتهي بهذه الشخوص الى الشعور بعدمية الوجود و تفاهة الحياة و يستبدّ بهم الشعور بالقلق و التوتر و الارتباك و الخوف من المصير و فقدان المعنى.. هذه الأزمة السيكولوجية يحاول كتّاب القصة القصيرة جدا مواجهتها بجعل الشخوص تعود الى ذاتها و تقوم بعملية إعلاء و تصعيد من خلال أشكال اللاوعي التي تتمظهر خاصة في الحلم .. كيف ؟ يعتمد الكتّاب على الحلم للتوغل في عالم اللاوعي للشخوص و تحسّس ذواتهم و لذلك نجد العديد من الكتّاب يشتغلون على تيمة الحلم : من ذلك أن عبد الله المتقي من جملة 59 قصة قصيرة جدا من كتابه ” مطعم هالة ” هناك 10 قصص تهتم بتيمة الحلم. أما اسماعيل البويحياوي فانه يوظّف كل قصص كتابه ” قطف الأحلام ” إلى الكتابة عن الحلم و يتناوله من زوايا مختلفة تكشف امتداد اللاوعي و عمق المكبوت لدى الانسان الذي يعيش الاحباط في التواصل مع الواقع و الفشل في المصالحة مع ذاته. هذه الأزمة السيكولوجية يمكن أن تنتهي بنا فلسفيا إلى أزمة وجودية كيف ؟
*أزمة الوجود : مركزية الأنا و هيمنتها على الأحداث تعبّر بشكل ما عن عجز في التواصل مع العالم والانتهاء الى حالة اغتراب حادة هذا يسمح بطرح أسئلة وجودية تعبّر عن قضايا أساسية للانسان من قبيل : ما الجدوى من الحياة ؟ ما القيم ؟ لماذا الانسان؟ أزمة الوجود تعكس أرقى درجات الوعي بطرح قضايا مطلقة و مباحث ميتافيزيقية مجردة.. مثال : هذا يتمظهر في الكتابة السريالية مع عبد الله المتقي التي تحيلنا الى حالة من العبث نقرأ مثلا قصة ” كابوس” ص 11 : 1 رجل غامض، يطارد امرأة 2 الرجل يلهث، و المرأة الحالمة تكاد تتقيأ رئتيها 3 على جسر التعب، انهارت المرأة، كي يتمكّن منها الرجل 4 و هكذا لفظ الكابوس روحه في نهاية القصة. و أيضا في قصة اغتيال” لعبد الحميد الغرباوي ص 23 و قصة اسماعيل البويحياوي ” تجوهر ” ص 42 : “حين سقط جثة هامدة، كان اصبعُه لايزال على الزناد و الفوهة كما لو أنها مسددة في اتجاه الساعة المدقوقة الى الجدار وهي تعدّ الثواني في حياد تام”. العبث يمكن أن يعبّر عن حالة لامبالاة من الحياة و فقدان روابط منطقية تشدّ الانسان للواقع، يعبّر عن تأزم الانسان في عالم يهيمن فيه الاقوى و تستبدّ فيه المادة و تتلاشى القيمة .. ينتهي الشعور بالعبث الى تمظهرات عديدة كغياب المعنى و الشعور الشديد باليأس و يبدو هذا عند القاص عبد الحميد الغرباوي في قصة “اختناق” من كتابه ” قال لي و مضى ” ص 21 يقول” أنا واثق من أن العالم ، هذا العالم ، بعد حوالي مئة عام، سيكون رحبا..” . و منتهى التراجيديا ان يلتقي في آخر المسار البعد السيكولوجي المتأزم بالبعد الوجودي العبثي في قصة قصيرة جدا لاسماعيل البويحياوي بعنوان “استمرارية” ص 54 ” ولما عيل جسدي بكت أحلامي كثيرا . حملتني إلى قبري ثم عادت تراقص رغباتي اللاجئة في جسد شبيهي.”
2 / المباحث و القضايا المطلقة :
يعبّر الانسان عن أزمة وجود إنما يجعله يطرح مسائل مطلقة و قضايا ميتافيزيزقية ترتبط مثلا بالقيم الانسانية المجرّدة و التي تطرحها البشرية و في كل لحظة وعي و مهما اختلف المكان و الزمان.. يقول الناقد التونسي عبد الدائم السلاّمي في كتابه ( شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا ) ” القصة القصيرة جدا قادرة على تصوير تفاصيل الواقع الدقيقة تصويرا ينطلق من المشهد الخام المرجعيّ و يرقى به الى مراتب عليا من التأويل فيتخلّص فيه الحدث المحكيّ من أشراط الزمن و ضاغطات المكان و ينفتح على احتمالات الممكن التخييلي ” ( ص 8 ) و هذا ما يجعل هاجس العديد من هؤلاء الكتّاب يتمحور حول قيم الحرية و الخير و العدالة .. عن الحرية نجد القاص عبد الحميد الغرباوي مثلا يكتب قصة بعنوان حرية ص 51 : ” كثيرا ، كثيرا من العتمة . قليلا ، قليلا من المساحة… و هكذا ، حين أطلقوه، لبرهة .. لشهقة .. أحسّ بالاختناق.” و لعل حسن البقالي يعبّر عن هذه أزمة الحرية في قصته ” جبن ” ص 69 ” أحسّ بالجوع فألّف القصائد عن أطايب الطعام.. أحس بالجوع ثانية فتغزّل بالشفاه و الأرداف و الخصور النحيلة لكن.. حين أحسّ بالاختناق لم يكتب عن الحرية”. عن العدالة الاجتماعية نجد السعدية باحدة في قصتها ” الحكامة الج ” ص 51 . أو حسن البقالي في قصة ” القيئ ” ص 27 . و عن السلام قصة حميد ركاطة ” النمر المقنّع ” ص 60 . يعبّر هذا عن قدرة على التجريد و الانطلاق من الخاص إلى العام و لعلّها طريقة فنّية لنبش ظواهر مخصوصة و تحويلها إلى اشكاليات انسانية مطلقة.
3 / البناء الفنّي :
يقول محمد الباردي أن تاريخ السرد الفنّي العربي الحديث سار على خطى تاريخ السرد الغربي من حيث بناؤه و من حيث محامله الا في القليل النادر من الاختلافات” و هذا ما يجعل من القصة القصيرة جدا المغربية تعتمد كل الوسائل التقنية المتعارف عليها في الأدب العالمي الخاص بهذا النمط الأدبي مثل التكثيف و المخاتلة و المفارقة .. وأيضا تضمين المقولات و الحكم العالمية و هذا يعني انفتاح القاص المغربي وتأثره بالمدّونة العالمية و تشرّبه لهذه التقنيات الفنية . نلاحظ تضمين القصة القصيرة جدا المغربية على أساطير عالمية مثل اسطورة نرسيس التي يعود حسن البقالي للاشتغال عليها في قصته ….. او الاشتغال على لوحة للفنان العالمي “ماغريت” في قصة الرقص تحت المطر ص 17 سينمائية القص عند حسن البقّالي .( بمهارة يحوّل البقالي قلمه إلى عين الكاميرا) مثلا في قصة ” علاقة ” ص 12 . في البداية نجد Moyen Plan ” موايان بلان ” لامرأة مقبلة ، الصورة تبدو شفّافة نكاد نشمّ من خلالها عطر المرأة و مع اقترابها تتحول الكاميرا إلى هذا الرجل الذي هبّ لقدومها . Grand Plan تلتقط عين الكاميرا و قد أصبحت ” قران بلان” يد المرأة و أيضا عين الرجل تحضنان المجال وتبتعد الكاميرا قليلا و يتنحى السارد من طريقها ليدخلا : هما الان خلف الحجاب و لكن نفهم من خلال ظلالهما أن الرجل ينزع أزرار السروال و تقبل المرأة بيدين حانيتين تغرز الحقنة تحت الجلد الازرق . و انفتاح الكتّاب المغاربة على الأدب العالمي ربما هو الذي دفع بالقاص اسماعيل البويحياوي على الابتكار في الموضوع عندما اشتغل على تيمة واحدة في كل قصص الكتاب وهي الحلم. نجد هذا مثلا عند الشاعر العالمي الكوردي شيركو بيكاس ).
الخصوصية :
تحيل الخصوصية على معنى الهوية، أي على ماهو ثابت و أصيل و جوهري و خاص بمجتمع ما أو بالنحن الثقافي. يمكن للثقافة الشفوية ان تترجم بعمق الخصوصية و أيضا الثقافة الكتابية قد تتكفّل بذلك . والقصة القصيرة جدا رغم إختزالها الشديد و كثافتها المفرطة تستطيع أن تقول صاحبها و تعكس الواقع الذي نشأت فيه و من هذا المنطلق أعتقد أن القصة القصيرة جدا بمثابة مجهر صغير يختار موضوعه و يضغط من خلال اللغة على ذلك الموضوع أو التيمة فيجعله أكثر بروزا و أشد وضوحا.. و لذلك نجد القصة القصيرة جدا تقول واقعها المحلّي باختزال و كثافة و بدقة ووضوح.
1 – القيم الاجتماعية :
هذه القيم الاجتماعية هي تعبيرا عن الهوّية المغربية الخالصة .. و هنا أقول أن هذه الهويّة المغربية تلتقي في الكثير من التيمات مع الهوية المغاربية ككل و لعل هذا يعبّر عن وحدة القيم الثقافية و تفاعلها تقريبا في نفس المناخ الاجتماعي ربما لوحدة العناصر الثقافية و الدينية و التاريخية و الجغرافية .. نجد القصص القصيرة جدا المغربية تنفتح على قيمها الاجتماعية المخصوصة و يجعلها هذا تهدف الى وظائف محدّدة : *وظيفة اجتماعية : الترابط بين أفراد المجتمع و التصالح مع مختلف الأجيال لذلك تتنوع الشخوص نجد الاب و طفلته ، نجد الطفل و الجدة ، العاشق وحبيبته،.. من ذلك قصص عبد الله المتقي. *وظيفة تربوية /أخلاقية : الانتصار للقيم الجميلة و التعلّق بالمثل العليا حتى أن بعض القصص القصيرة جدا تأخذ بعد حكمي و ان كانت لا تسقط في المباشرتية من ذلك قصص حسن برطال. *وظيفة سياسية : الاهتمام بالمهمّشين و أهمية العدالة الاجتماعية و التنمية الاقتصادية لمواجهة الفقر و الحد من الحاجة.. من ذلك قصص حميد ركاطة. كيف نفسّر هذا الارتباط بالمحلّية ؟ يحدث في القصة القصيرة جدا ان يعود الكتّاب الى الارث الثقافي و استحضاره على مستوى المعيش اليومي أو بتذكّره ، يقول الناقد محمد رمصيص أن ” فعل التذكّر في هذا السياق الفردي ليس هدفا في حدّ ذاته بقدر ما هو وسيلة استحضار مراكمة الخبرة الوجودية التي تأبى أن تكتمل ” . بمعنى أن القصة القصيرة جدا في المغرب في نظري تمسك بتلابيب الماضي ولا تريده أن تفقده أو ينفلت فهي تقوم بوظيفة المحافظة على النسق الكرونولوجي للزمن فما تقوم به من ” حكي استرجاعي ” من خلال ربط الماضي بالحاضر لنضمن المستقبل. من هذا المنطلق يمكن أن نقول أن الق الق ج في المغرب تحمّل نفسها مهمّة الانتصار للزمن المغربي لضمان نوع من الحصانة للهوية المغربية ويكون هذا مثلا من خلال : -الأغاني الشعبية : مع عبد الله المتقي في مطعم هالة ص 55 ” المغني يعزف و يغني : ” دابا تجي الحبيبة دابا تجي ” و بعدها بقليل ” ايلا خيابت دابا تزيان”. -حكايات الجدّة : عند حميد ركاطة في دموع الفراشة نجد 3 قصص قصيرة جدا تتمحور حول الجدّة ص 9 /66/99 من ذلك في قصة ” هل طرد آدم من الجنة ؟ ” لما أقبل الليل ، طوّقنا الجدّة و حاصرناها بالأسئلة كالمعتاد..” -الأولياء الصالحون : من ذلك عند حسن برطال في” قوس قزح ص” 19 قصة بعنوان (الفقيه ) .. ابن صالح.. يقول ” ماذا تعني لكم ( الفقيه بن صالح )..؟؟ هكذا سأل أستاذ مادة التاريخ..”
2 / التمظهرات الحياتية :
تغوص القصة القصيرة جدا المغربية في الواقع المغربي المحلّي.. تتوغّل كثيرا في عالم المهمّشين و المقصيين و المنبوذين.. في كتب كثيرة تتخذ من الفقراء و المحرومين و المحبطين عالمهم المثالي .. تقريبا كل كتّاب القصة القصيرة جدا يشتغلون على هذا العالم المغيّب و المهمّش .. و إن كانت هذه الشريحة لا يخلو منها أي مجتمع في العالم إلا أن الكتّاب المغاربة يقصدون بالذات تسليط الضوء على فقراء مجتمعهم و هذا ما يجعل من القصة القصيرة جدا في المغرب تتنزّل ضمن ما يسمّيه الناقد محمد رمصيص ” كتابة صدامية ” لأنها تتوغل في منطقة اللاوعي و تكشف المخفي و من ثمة تسقط القناع عن المكبوت .. انها تجعل الانسان في مواجهة مباشرة مع عقده النفسية و الاجتماعية و هذا يعني فضح الانسجام الزائف و الوهمي تجاه الأنا و الأنا الأعلى وتجعلنا نواجه القيم الاجتماعية المهترئة ، و الفقر المدقع والجهل الفاضح و التخلّف المفجع و لذلك يقول محمد رمصيص هي” كتابة لا تهادن و تصرّ على تعرية القبح و جعله شاخصا أمامنا إنها كتابة بالدم و ذات حساسية مفرطة في رصد العطل والعطب “. الكتّاب المغاربة يجعلون القصة القصيرة جدا مشرطا لملامسة ظواهر الفقر والتخلف و الجهل .. و بذلك تفجّر واقع بائس و لهذا نجد هيمنة تمظراته في الكثير من القصة القصيرة جدا بل أعتقد انه لا يوجد كاتب مغربي لم يغرف من هذا الواقع و لم يجعل من عالم المهمّشين و الفقراء تيمات لقصصه .. يبرز هذا خاصة عند حميد ركاطة في كتابه ” دموع فراشة ” و حسن البقالي في كتابه ” الرقص تحت المطر ” و السعدية باحدة في كتابها ” وقّع مداده و مضى ” و عزالدين الماعزي في كتابه ” حب على طريقة الكبار ” .. عوالم المهمّشين تقدم لنا شخصيات محلّية متأزّمة تعيش الكبت و تعاني الاحباط و هذا ما يجعلها شخصيات مرتبكة متوترة قلقة تفتقد الانسجام ويحدث ان يؤدي بها هذا الى الشعور بالانكسار و الخيبة . في الكتاب القصصي لحسن البقّالي ” الرقص تحت المطر ” نجد هذه النماذج المحبطة في قصص ” قطة زبون 2 ” أو ” نبوءة ” أو ” الاسم ..”. هناك قصة قصيرة جدا أقدمها مثالا وهي جميلة و معبّرة هي قصة ” حلم ” : ” كانت أحلامي ملوّنة ملوّنة و مترعة بالضياء ، الآن حلم واحد بالأبيض و الأسود يرهق لياليّ أراني في محراب عائم فوق الماء ‘دعو الاله الرّحيم أن يعيد اليّ القدرة على الحلم”. ص 64 .
لذلك نجد الشخصيات المغربية المهمّشة تعاني : القهر و الاحباط ، إنها ذوات متشظّية ، منفصمة ، منكسرة و مرهقة يضنيها الاحساس بالمرارة و الفشل .. نلاحظ هذا في الكتاب القصصي لعزالدين الماعزي ” الحب على طريقة الكبار ” و يبدو هذا من عناوين القصص مثلا ” لأنه جائع” ، ” قنبولة “، “خيبة 2” ، “خيبة 3″، “دمع الآلة ” الخ… عوالم المهمّشين تعمل على مخاتلتنا عندما تقدّم لنا نفسها ليس ككائنات مخلوقة أو تخييلية بل كشخصيات حقيقية و ايجابية ايضا تتخذ مسافة من بؤسها و فشلها و يأسها و تواجهه بالنكتة و الطرفة وهو ما يسمّيه راينه ماريا ريكله ب ” نوع من الخداع الرائع” ، وهذه الشخصيات المغربية نجدها تعمل على السخرية لنقد المؤسسات الاجتماعية و السياسية و تلك طريقتها في مواجهة واقعها و التمرّد عليه ، أي أن السخرية تحوّل الشخوص المتشظّية والمنكسرة و المحبطة الى شخوص فاعلة و متمرّدة و ناقدة . يبدو هذا خاصة مع حميد ركاطة في كتابه القصصي ” دموع الفراشة ” من ذلك قصص ” بين شاعر و قاصة ” ص 27 ” عرافة ص 43 ، ” طلاق بالثلاثة ” ص 70 ، ” ذئاب ” ص 73 ، ” مشروع مسودة” ص 92 ، ” ألوان ضاحكة ” ص 93 الخ….. سأقدّم مثالا عمليا قصة ” الحطاب ” ص 64 : ضبطه حارس الغاب يحطب ليلا ، سأله : ماذا تفعل ؟ فأجابه : كما ترى .. وهو يسلّمه ورقة نقدية ، قال الحارس : لم أعد أرى شيئا عقب الحطاب مستهزئا : و هل كنت ترى من قبل ؟ تنتهي بنا السخرية الى الكوميديا السوداء على اعتبار ان السخرية هنا ليست اعتباطية و انما هي موقف لنقد قيم مهترئة و علاقات مشوّهة و رفض كل أشكال الفساد التي تنتشر في المجتمع و تحافظ على رداءته..
3 / البناء الفنّي :
من بين التقنيات الفنّية التي تستعمل في القصة القصيرة جدا و التي تعبّرعن محلّية مغربية نجد الأمثال الشعبية، أسماء أولياء صالحين، وأسماء مدن وقرى بعينها و توظيف كل ذلك لتقول زخم الفكرة و تحافظ على عمقها وجدّيتها و يبرز هذا خصوصا في استعمال اللهجة المغربية المحلّية و التي تعبّر من جهة عن إعتزاز الكاتب بهوّيته المخصوصة من خلال هذه اللّهجة وأيضا للمحافظة على وهج الموضوع و التصاقه بثقافته. مثال عند عزالدين الماعزي عندما يحوّل الحوار في قصة “قنبولة ” الى الدارجة المغربية و و أيضا في قصة ” متتالية وراثية ” ص 13 قصة ” نقطة على نقاط” ص 73.. عندما يستعمل تلك المقولة الشعبية عند الختان ” قويبعة .. شوف أوليدي قويبعة الجنة في السما” من قصة ” عطلة ” ص 70 القاص اسماعيل البويحياوي بوظّف اللهجة المحلية لتصبح بدورها لغة الحكي الخالصة التي تقول القصة القصيرة جدا و تتحمّل مسؤولية دلالاتها و هي قصة ” سمقلة ” ص .. و نجد البويحياوي هنا وفيّا للهجة المحكية فيحترم العلاقة بين الدال و المدلول عندما يجعل اللغة تحكي البطل المصاغ من طين الواقع المغربي المحلّي .. بطل يشبه الكثير ممن نلتقيهم في الحياة و نلاحظ بيسر طيبتهم و فقرهم ، تلقائيتهم و عوزهم .. ممن يستطيع ان يتخلى عن كل ذنوبه الجميلة في مقابل ان يستبقي لديه القدرة على الحلم .. الحلم الحلال. سمقلة واحَدْ خَيْنا فْتَح عليه الله مَزْيَانْ. قالْ هو أسيدي. باش نحافظ على صْحَيْحْتي ونْسَمَّنْ جْويبي ونقّي ضميري قطعت المخدرات ومَتَنَكْمى دابا غير لَحْلامْ لي حْلال
أعتقد ان اشتغال الكاتب المغاربي على اللهجة تعني إعتزازه بهويته من جهته و رغبته في الوفاء أكثر للقصة خاصة إذا كانت تنقل أجواء مغربية بحيث إن اللهجة المحلية تحافظ على زخم الحدث و أصالته. ما يشبه الخاتمة : إذا كانت القصة القصيرة جدا في البلاد العربية لاتزال تعتبر وليدة و تتلمّس مشروعيتها فاني أجدها في المغرب قد حقّقت أسبقية على مستوى الكمّ والكيف .. و يعود هذا ربما إلى المناخ الثقافي المنفتح و خاصة إلى اهتمام النقّاد بالتنظير و البحث و الدراسة للمنتوج المحلي في القصة القصيرة جدا و الى جانب انفتاح بعض النقاد الشبّان مثل د. سعاد مسكين منن خلال إصدارها الأخير ” القصة القصيرة جدا : تصورات و مقاربات” و استقدام بعض النقاد العرب للاشتغال على المدونة المغربية مثل الناقد عبد الدائم السلاّمي من تونس لكن يبدو لي أن د. جميل الحمداوي من أهم النقّاد الذي يشتغل مخصوصا بهذا النمط الادبي و يفرد له مساحة هامة من البحث و التدقيق حتى أني أجده على جرأة نقدية مبهرة في مقالته ” عوائق القصة القصيرة جدا و همومها و مشاكلها عندما يكشف الاخطاء الجسيمة التي يرتكبها بعض كتّاب القصة القصيرة و في كل خطأ يقدّم مثالا بليغا.. و لعل الحراك الثقافي المغربي الشديد يجعل من المغرب رائدة في أدب القصة القصيرة جدا فاذا أصبح من الممكن ان نعدّ بيبلوغرافيا القصة القصيرة جدا فان في بعض البلدان العربية الاخرى لايزال ظهورها مبتسرا.. و اذا كان بالامكان ان نتحدث عن بعدي الكونية و المحلّية في القصة القصيرة جدا المغربية مع ما يعني ذلك من مدى تغلغها في الوعي الأدبي وتأثيرها في المجال الابداعي الا انها تنتهي بنا الى مزالق ممكنه. اذ لم يعد المبدع عموما مواطنا في مجتمع محلّي فقط بل أصبح مواطنا في مجتمع دولي و أصبح يعيش في عصر سريع و ربما هذا ما يجعل العلاقة بين الكونية و الخصوصية مربكة و غامضة خاصة و أن العولمة بما هي ممتدة من مجال الهيمنة الاقتصادية إلى مجال الغزو الثقافي تطرح رهانات على المبدع – خاصة في دول الجنوب – فهل تعني الكونية إنزياح عن الخصوصية و ذوبان تدريجي في ثقافة الآخر أم إن الخصوصية هي انغلاق على الهوّية و محاولة استبقائها للدفاع عن الذات تجاه تغوّل الكوني ؟؟؟ بمعنى كيف يمكن للمبدع اليوم بماهو صاحب مشروع ثقافي و ضمير مجتمعه ان يوازن بين محلّية تعبّر عن الهوية و بين كونية تعبّر عن تبعية ؟؟ هل يمكن للمبدع اليوم من خلال محليته ان يستكشف طريق الكونية كما يقول ماركيز أم ان الانبهار بالكونية ستجعله يفقد كل الروابط التي تشدّه إلى ذاته و تجعله يعيش أزمة هوية و ربما أزمة إبداع ؟؟؟؟
انتهى
فاطمة بن محمود
المصادر و المراجع
* *الأعمال القصصية حسن البقالي ( الرقص تحت المطر ) سندباد للنشر و الاعلام 2009 عبد الحميد الغرباوي ( قال لي و مضى) دار التنوخي 2010 حميد ركاطة ( دموع فراشة ) دار التنوخي 2010 عبد الله المتقي ( مطعم هالة ) منشورات اتحاد كتّاب المغرب 2011 السعدية باحدة ( وقّع امتداده .. و رحل ) منشورات الصالون الأدبي 2009 اسماعيل البويحياوي ( قطف الأحلام ) دار التنوخي 2010 حسن برطال ( قوس قزح ) مطبعة أنفو 2009 عزالدين الماعزي ( على طريقة الكبار ) 2006
*الكتب محمد رمصيص ( أسئلة القصة القصيرة بالمغرب /مقاربات موضوعاتية) مطبعة طوب برس 2007. عبد الدائم السلاّمي ( شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا) منشورات أجراس 2007. محمد الباردي ( الرواية العربية الحديثة ) دار الحوار للنشر 2002. *المقالات مقوّمات القصة القصيرة جدا عند يوسف حطّيني لجميل الحمداوي.الموقع الالكتروني ” المثقف ” بتاريخ 30 يوليو 2011.
المصدر:http://rasseen.com/art.php?id=4051bb6f23000f692210e4a750926ad89654e3b9