الكوخ السعيد..
هجر المدينة الصاخبة ،العابثة ،الماكرة ، وسكن كوخا بناه بيديه الضعيفتين ،يبعد عنها كثيرا .
في شتاء بارد يخافه الفقراء أمثاله ، استعان ببعض الأخشاب ،وعلب” الكرتون ” رماها أصحاب الدكاكين لعله يطرد بردا عن كوخه الصغير ،ويصنع دفءاً ينسيه ما لقي من ألم السنين.
لم يزره أحد ، حتى أولاده الأربعة ، لم يسأل عنه أحد منهم ،كأنه مقطوع من شجرة.. !
في يوم ثلجي جميل ، خرجت عائلات من المدينة ، تشتت في العراء تاركة ضوضاءها ، متمتعة بالبياض .
هذه شابة ترمي صديقتها بكرات الثلج ، وذاك يصنع تمثالا يأخذ صورا معه ،وطفل صغير يحبو ، يتذوق طعاما أبيض ، وعريسان يصفان قلبيهما ويشبهانهما بهذا البساط الجميل .
وكهلان يتبادلان أطراف الحديث حول سقوط الأمم ،وعن مصارع القوم .
ولكن،..
ما بال الفتى صاحب الشعر المجعّد والعينين الزرقوين؟..
يتأمل الكوخ ، هل أعجبه تصميمه ؟ أم المكان المرتفع الذي بني عليه؟ عكس المدينة التي بنيت على الحضيض ، تبلعها الأودية إذا غضبت ، وتبيدها الغابة إذا احترقت ..
بدافع الفضول، تقدم أكثر فأكثر حتى اقترب من الباب ، وأطل برأسه ليعرف ما بداخله ،ثم دخل..
وإذا بشيخ ذي لحية بيضاء غارق في النوم ، وجمر ، وعلب”كرتون” مرتبة جيدا ، ورائحة قهوة منبعثة كأنها أحضرت اللحظة .. !
استفاق الشيخ من نومه فإذا بالفتى جالسا على إحدى العلب.
-ماذا تفعل هنا يا ولد ؟
اتجه الفتى نحو الباب خائفا ، وبقي واقفا عنده ولم يتكلم بكلمة.
– يا وليد أين أنت ؟..نحن نبحث عنك يا وليد ..يا..
-أنا هنا يا أمي ..أنا هنا يا أبي..
دخل الوالدان غاضبين ..
– قالت والدته :ماذا فعلت بابننا يا شيخ ؟
– قال والده :أش شت ..هذا أبي .. !!
-هذا أبوك؟ !..ألم تقل لي بأن أباك ميت ؟ !
وخيّب الصمت عليه ، كأن على رأسه الطير ..
وواصلت أم وليد حديثها مع الشيخ ، بعد أن ارتشفت قهوته الساخنة ،كان حديثا شائقا.
وقدمت بين يديه اعتذارها على ردة فعلها العنيفة ، وسرت بمعرفته ولأن ابنها يشبهه كثيرا .
ألحت عليه أن يعيش معهم ، لكنه رفض الفكرة ، ووعدته بزيارته...وعانق الفتى وليد جده قبل الرحيل.
——–
من مجموعتي القصصية ” قبيل الفجر بقليل “، طبع ونشر الجاحظية للنشر-عنابة، الجزائر..