قراءة لـ (ق ق ج) “عازف اللّيل ” للقاصّة رجاء البقالي / المغرب
مسلك ميمون
النّص:
عازفُ اللّيل
عند منتصف الليل ينزل من عليائه يلتحف السّواد.. يرمي نظراته في الفراغ ويبدأ طقس الليلة.. طقس كلّ ليلة.. بكفين طويلتين يمسك بالكمان القاني ويشرع في شق السكون المميت.. نقرات ثلات على الأوتار تكفي لإيقاظهم…تتزحزح الأسرة الحجرية.. تتعالى الأيدي في السماء.. تتشابك، ثم تتقافز الأجساد، تتراقص على أنغام سحرية، تسابق الزّمن خوفاً من أزوف الموعد اللّعين.
بيد يمسح دمعتين، وبالأخرى يلوح لهم بالكمان ويعود إلى منصته الصّخرية قبل أن يصيح الدّيك الأسود وتشرق الشّمس..ينثرالصّبح ضياءه على ذلك التمثال الحجري وهو يتوسط المقبرة، يحتضن الكمان في عناق أزلي..
والقبور مطبقة على هياكلها بعد رقصة اللّيلة.
رقصة كلّ ليلة… ***
إنّ القصّة الق الق جداً عند القاصّة رجاء البقالي لا تمتحُ من الواقع و ما يجري، و لا ترسم أحداثاً كما هي في العادة و المُعتاد … بل تستوحي من هذا الواقع ظلالا، تنثرها حكياً، من شرفات الخيال الفنّي، و تترك للمتلقي حرية التّعامل مع هذا الخيال الخِصب. بمعنى أنّ شخصياتها، لا تقرّ بشيء ،و إنّما تفعل أشياء تبدو غريبة ، في رسالتها الرّمزية أو دلالتها الأيقونية ،من خلال هذا الفعل، و مقصديته، و نتائجه… كالذي نجده في قصّة ” عازف الليل” من مجموعتها ” البُعد الرّابع”
قد يحيلنا العنوان على عنوان المسلسل اللّبناني “عازف اللّيل ” إنتاج 1978 و الذي عشنا حلقاته ، بشوق و لهفة أواخر السّبعينات ،وقاسمنا أبطاله كلّ المشاعر الدّرامية و الرّومنسية… و منهم عبد المجيد مجدوب ، وهند أبي اللّمع، و وداد جبور…فضلا عن موسيقى المقدمة / الجينرك، الرّائعة و الحزينة للملحن إلياس الرّحباني… و لكنّ القصّة، لا علاقة لها بالمسلسل ، و إن استعارت منه العنوان، أمّا شخصية عازف الكمان. فهي في المسلسل كائن حي.أمّا في القصّة فهو تمثال عازف كمان حجريّ. فوق منصة صخرية.
كلّما انتصف اللّيل، حدث عجبٌ عجاب، كأنّ روحاً تنزل من السّماء، فتغشى تمثالَ موسيقيٍّ، فيستحيل كائناَ حيّاً. فما أن ينقرَ ثلاث نقرات على أوتار كمانه حتّى يَستيقظ كلّ من في القبور أياديهم إلى السّماء ، يتقافزون في رقص مُنسجم و أنغام الكمان، و الكلّ يسابق الزّمن خوفاً من الشّروق. و حين تنتهي رقصة اللّيلة مع تباشير الفجــر يمسحُ العازفُ دمعتين، و يلوح بكمانه مودعاً، ثمّ يعود إلى منصته الصّخرية، ليعود سيرته الأولى، قبل أن يَصيح الدّيك الأسود، و تشرق الشّمس، فتنطبق القبورُ على هياكلها، في انتظار رقصة ليلة قادمة.
كما نلاحظ النّصّ لا يحكي ظاهرة من الظّواهر الواقعية.بل يغوص بنا في رؤى حُلمية خالصة.. غرائبية محضة. وكأنّنا بصدد حكاية خرافية (Le conte merveilleux) و هذا يستدعي سيلا من الأسئلة، لأنّ النّصّ حافل بعلامات سيميائية. و إشارات و وقفات لسانية (linguistique)
ــ لماذا ـ بالضّبط ـ عند منتصف اللّيل ينزل من عليائه؟
ــ لماذا يلتحف السّواد؟
ــ لماذا يصرُّ على إحياء طقس كلّ ليلة : موسيقى و رقص؟
ــ لماذا ثلاث نقرات تكفي لإيقاظ الموتى؟
ــ ما دلالة رقص الموتى طوال اللّيل؟
ــ لماذا يسابقون الزّمن خوفاً أن يدركهم الشّروق؟
ــ لماذا نعت الشروق بالموعد اللّعين؟
ــ لماذا يمسح الموسيقي دمعتين؟
ــ لماذا يلوح الموسيقى للموتى/الأحياء بالكمان؟
ــ لماذا يعود لمنصته الصّخرية قبل أن يصيح الدّيك الأسود؟
ــ و لماذا الدّيك أسود ؟
ــ ما علاقة الموسيقي/التّمثال باللّيل؟
ــ ما سر وجود تمثال موسيقي يعانق كمانه وسط المقبرة ؟
ــ لماذا تطبق القبور على هياكلها بعد نهاية الرّقص؟
النص لا يُجيب عن هذه الأسئلة . و لا يوحى إلا قليلا بما يساعد على معرفة الجواب. بل حسب الأسلوبة، والدّيباجة (épigraphe) يشعر المتلقي بأنّه محاصر بتمثلات، و تصورات، و رموز ، و إشارات…
[منتصف اللّيل، يلتحف السّواد، طقس كلّ ليلة، بالكمان القاني ، نقرات ثلات ، الأسرّة الحجرية، تتقافز الأجساد، تسابق الزّمن، الموعد اللّعين.يمسح دمعتين، يلوح لهم بالكمان ، منصته الصّخرية ، الدّيك الأسود، يتوسط المقبرة،والقبور مطبقة على هياكلها ] فهذه ليست مؤشرات دالة (Indicateurs) بقدر ما هي علامات سيميائية ، في حاجة لتحليل و ربط و تأويل..قصد تحقيق فهم شامل ، من خلال مقاربة تركيبية.
مع التّركيز على السّواد أو ما يمتّ إليه بصلة، لقد تكرّرت في النّص دلالات السّواد بشكل لافت، و يمكن اعتمادها ككلمات مفاتيح : [عازف اللّيل، منتصف اللّيل ، يلتحف السّواد.. طقس اللّيلة.. طقس كلّ ليلة.. الدّيك الأسود، رقصة اللّيلة. رقصة كلّ ليلة…] و بالمقابل يمكن اعتماد كلّ ما يدلّ على النّهار أو ما يمتُّ إليه بصلة في النّص : [الموعد اللّعين ( و يراد به الشّروق )، يصيح الدّيك، تشرق الشّمس..ينثرُالصّبحُ ضياءه] إذاً نحن بصدد علاقة تضادية، تشكّل مُفارقة النّص. على المستوى الدّلالي.
عالم القاصّة رجاء البقالي يَنحو هذا المنحى، القصّة عندها لا تتضمّنُ حكياً يحتمل الوقوع. بل حكياً لإثارة كوامن الذّاكرة الفردية، و الجماعية، و الاشتغال على رمزية الغرائبيّ و الفانتاسيكي و الحلم…ما يَسمحُ بالتّأويل بل بالإسقاط ( (projection بما له علاقة بالنّص.
و انطلاقاً ممّا وصلنا إليه ، يمكن القول أنّ النّصّ أصبح مُشرعاً على كلّ الاحتمالات التّأويلة، سواء ما قصدته القاصّة، و كان سَبباً في الكتابة. أو ما لم تقصده و لم يَخطر ببالها. و لكن مُعطيات هذه الكتابة القصصية توحي به بشكل من الأشكال. و هذا هو الجميل في الإبداع الفنّي عموماً، و في القصّة الق الق جداً بخاصّة.
لقدْ جرت العادة أنّ من يُعاني إعاقة ما، مَرضية، أو خَلقية.. تحرمه أن يعيش عيشة طبيعية كباقي البشر، سرعان ما يُقال عنه في السرّ أو في العلن (حي/ ميت). فما بالك إذا كانت هذه الإعاقة مرتبطة بالنّهار ( الموعد اللّعين ) ؟
إنّ أطفال القمر ليس لهم إلا اللّيل، فيه يمارسون نشاطهم يسابقون الزّمن، خوفاً أن يُدركهم ضوءُ النّهار. فيؤثر عليهم بالغ الأثر. لهذا يلجؤون إلى غرفٍ مُظلمة ، “فتنطبق القبور على هياكلها” . في انتظار ” عازف اللّيل ” .
قصّة قصيرة جداً ، رمزية هادفة و مؤثرة، كتبت بأناقة فنّية، و لغة قصصية، فبلّغت الرّسالة بطريقة ذَكية، و سياق ببنية مَفتوحة ، يستجيبُ للمَسار الحَداثي، و المقاربة الاختزالية، و جمالية التّلقي، فهنيئاً للقاصّة رجاء البقالي بهذا النّص المتميّز بخياله و تخييله المُلهم. الذي حقّق القيمةَ الدّلالية و الجَمالية، في بِضعة أسْطر.
تحياتي / مسلك
المصدر:http://maslak.wata.cc/?p=4961