فرانز فانون: منظّر الثورة الجزائرية، من يتذكّره؟
محمد الميلي
في مثل هذا اليوم 06 ديسمبر، توفي الكاتب والمناضل الجزائري فرانز فانون، (1925-1961) صاحب الكتاب الشهير «معذبو الأرض». رفيق نضاله الدكتور محمد الميلي، كتب عنه عدّة مقالات، وألف كتابا عن حياته ونضاله بعنوان: «فرانز فانون والثورة الجزائرية». ولعلها مناسبة، نتذكر فيها أيضا المفكر والديبلوماسي الجزائري محمد الميلي، متمنّين له الشفاء العاجل، يقول الميلي:
فرانز فانون! من هو؟ عندما تطرح هذا السؤال اليوم في الجزائر، على أحد الشبان قد يجيبك: لا أدري، وقد يقول هو اسم شارع أو اسم مدرسة ثانوية للبنات! عندما سألت تلميذة من تلميذات ثانوية “فرانز فانون” عمن يكون هذا الذي سميت به هذه المدرسة الثانوية، أجابت: لعله اسم ضابط فرنسي!.
في حين أن اسم فانون كان يتردد، منذ أربعين سنة في كل محفل سياسي وكل تجمع ثوري، بالجزائر وفي البلدان الأفريقية وفي أوساط الزنوج بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي عدد من البلدان الأوروبية وفي كامل أمريكا اللاتينية، وفي إيران.. أفلام عديدة خُصّصت لحياته أشرف عليها مخرجون انجلو ـ ساكسون؛ كما خصص له أكثر من كاتب وفيلسوف دراسات صدرت عند حياته وفكره، أكثرها بالإنجليزية وأقلها بالفرنسية.
وقد استمر اسمه يشغل المثقفين في مختلف أنحاء العالم منذ نهاية الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي. أما الآن فقليل هم الذين يذكرون اسمه فضلاً عن معرفة فكره والمسار الذي اتخذه، بينما كان اسمه يساوى اسم شى غيفارا شهرة وتألقاً.
أن ينسى اسم فانون بعد أن كان ذائع الصيت، ليس بالمستغرب، فهو ليس أول ولن يكون آخر من شاع اسمه ثم اختفي، لكن أن ينسى في الجزائر بالذات، فهذا ما يصعب تفسيره. لقد اقترن اسمه بالثورة الجزائرية التي انضم إليها في وقت مبكر من اندلاعها. التحق بالجزائر قادماً من مدينة ليون عام 1953 ليشرف على أحد أقسام مستشفى الأمراض العقلية بمدينة “البليدة”، وهى مدينة تقع في قلب سهول المتيجة الخصبة، على سفح جبل “الشريعة” الذي تغطيه غابات أشجار “الأرْز”، التي تمثل ملجأ آمنا للثوار.
كان يساهم في معالجة الجرحى من جنود جيش التحرير، وبعض المصابين منهم بأمراض عقلية. وما لبث أن قدم استقالته إلى الوزير ـ المقيم العام بالجزائر ـ وتفرغ للعمل في صفوف جبهة التحرير التي خدمها بفكره وقلمه، حتى اعتبره كثيرون ـ ولم يكونوا مخطئين ـ منظر الثورة الجزائرية. وقد كان دوره فريدًا في الكشف عن بُعدها الأفريقي، وفى الرد على الذين يعتبرون نشاط الفدائيين إرهاباً، فقد كان الجدل قوياً بين الاستعماريين الذين ينعتون العمل الفدائي بأنه إرهاب، والوطنيين الذين يعتبرونه وسيلة من وسائل الدفاع عن حق مشروع. وهو جدل شغل حيزاً معتبراً من اهتمامات المثقفين منتصف القرن الماضي في الجزائر، مثل الجدل الدائر منذ عقود حول كفاح الشعب الفلسطيني.
ولعل المثقفين العرب، أو بعضهم على الأقل ما زالوا يذكرون الضجة التي أثارها، منذ أربعين سنة، كتاب “فرانز فانون” “Les damnés de la terre” الذي خصص أهم فصل من فصوله للحديث عن “العنف” و”العنف في المجال الدولي” وهى ضجة هزت أوساط اليسار في فرنسا وفى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، كما شغلت المثقفين في عدد من البلدان الآسيوية خاصة اليابان وإيران.
فهل تسمح قراءة جديدة الآن في هذا الكتاب، بتقديم إجابات ملائمة عن الأسئلة المطروحة على عوالم اليوم، فيما يتصل بالعنف؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال.. لكن رأيت أن الظرف العالمي الراهن يتطلب التعريف بفرانز فانون، عبر آخر ما كتب عنه من ترجمات. وتعتبر الترجمة التي قدمتها عنه “أليس شركي” “Alice Cherki” التي عرفته عن قرب، أحسن ما أتيح لي أن أقرأه من كتب تناولت سيرته الذاتية ومساره النضالي وطريقته في التفكير وأسلوبه في الحياة.. ظهر هذا الكتاب أواخر العام الماضي بالفرنسية.
ولدت مؤلفة هذا الكتاب، بالجزائر في أسرة يهودية. وقد ساهمت في حرب التحرير الجزائرية. وهى طبيبة نفسانية عرفت فانون عندما التحق بالجزائر، واشتغلت معه في تونس أيضاً. بهذه الصفة المزدوجة تعتبر أحسن من يكتب عن فانون.
والواقع أن هناك أكثر من عامل يجعل الحديث عن هذا الكتاب مناسباً.. الأول: أن التطورات التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال خاصة أحداث العشرية الماضية تؤكد صحة بعض الاستنتاجات التي استخلصها فانون من دراسته للحالة الجزائرية وعدد من الحالات الأفريقية. الثاني: دقة تشخيصه للأمراض التي تهدد الحركات الوطنية، قائدة المعركة من أجل الاستقلال، خاصة بعد أن تتولى الحكم فقد حذر من الإبان من الأخطار التي تتهددها، ونبه إلى ما يترتب عليها من أوضاع متردية.
ذلك أن تكهنات فانون لم تكن نتيجة تحليل مخبري، لكنها كانت خلاصة دراسة ميدانية وملاحظات دقيقة، حللها بعين المفكر وخبرة المحلل النفساني.
وهذا هو ما يفسر الصدى الواسع الذي لقيه آخر كتبه في جميع أنحاء العالم، عندما صدر في الثلث الأخير من عام 1961. بل إن تعبير الصدى الواسع لا يعطى صورة دقيقة عن الأثر الذي أحدثه: فقد كان له مفعول قنبلة. بيعت منه مئات الآلاف من النسخ، سواء في الطبعة الفرنسية التي كتب بها أو في الترجمة الإنجليزية، زيادة عن مبيعات ترجماته إلى خمس عشرة لغة. وقد نسب بعضهم ذلك الصدى الواسع إلى المقدمة التي كتبها جان بول سارتر الذي كان في ذروة تأثيره. لكن الحقيقة أن العامل الأساسي الذي جعل كتاب “معذبو الأرض” يلقى ذلك الاستقبال، هو أنه صدر في وقت “ملائم” ليسد فراغاً ويستجيب لتطلعات ضخمة، ويرد في الوقت نفسه عن أسئلة كانت موضوع جدل بين مثقفي العالم الثالث.
فقد صدرت طبعته الأولى بعد أن انتصرت كوبا فى كفاح طويل ضد باتيستا، وبرز للعالم اسم فيدال كاسترو وشى غيفارا. وكانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر تَحُثُّ المسير لتصنع مشروعها التحرري النهضوي، على طريقة ثورة اجتماعية تستخلص العبرة من درس الانفصال الذي هز الجمهورية العربية المتحدة؛ بينما كانت شعوب أمريكا اللاتينية تتطلع للتحرر من قبضة الاحتكارات الكبرى كما فعلت كوبا.
إذن كان الوقت ملائماً لاستقبال كتاب فانون. ويتمثل أحد عوامل نجاحه في اللغة التي اعتمدها لتبليغ أفكاره إلى المعذبين في الأرض. وذلك ما جعل عدد من المعلقين يعتبرونه دعوة إلى أممية جديدة على مستوى العالم الثالث. فقد توجه بخطابه إلى الشعوب المضطهدة، ولم يتوجّه به إلى الغرب، فهو يطلق في ختام خطابه صرخة هي: “يجب أن نهاجر أحلامنا، أن نتخلى عن معتقداتنا وصداقاتنا التي سبقت. لا يجوز أن نضيع وقتنا في دعوات عقيمة ومحاكاة تبعث على الغثيان. لنغادر أوروبا هذه التي تتحدث دوماً عن الإنسان في نفس الوقت الذي تقتله فيه تقتيلاً، كلما اعترضها في أي مكان من أنحاء العالم.
*
المصدر:https://www.nafhamag.com/2016/12/06/%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%B2-%D9%81%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%91%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D9%85/