الناقد والشاعر \ فتحى الحمزواى = تونس
على سبيل المقدّمة
لا شكّ وأنّ القصّة القصيرة جدّا هي علامة العصر الحديث وأشهر منتجاته الفنيّة على المستوى القصصي ونحن نعبر في مجال السرد عبر تاريخه الطّويل من الملحمة إلى الرّواية…إلى القصّة الومضة/ الشّذرة التي زاحمت ألوان الكتابات القصصيّة الأخرى وأوجدت لها موقعا ممّا جعل النّقّاد يهتمّون بها، ويبحثون في شروطها ومقوّماتها الجماليّة. ولكن السّؤال عن مدى قدرة استيعاب القصّة القصيرة- بحكم المدى الذي تتمطّط فيه- لقضايا تتطلّب حيّزا شاسعا يظلّ قائما، هو وأسئلة أخرىة تخصّ إشكاليات فنيّة وتعبيرية ومرجعيّة ليس هنا مجال عرضها. بمعنى هل يمكن للسان القصّة القصيرة أن يكون طويلا ولصوتها أن يكون عاليا إذا تعلّق الأمر بقضايا يعظم شأنها خاصّة وأنّ قدميْ هذه القصّة قصيرتان وأنّ يديها لا تمتدّان عاليا. نحن نتحدّث عن قضايا تخصّ الأمّة العربيّة الإسلاميّة ووضعيّتها الحضاريّة في ظلّ النظام العالمي الرّاهن ومنزلة المثقّف العربيّ فيه وآليّات تعامله مع مثل هذه القضايا. لقد عالج الرّوائيون العرب الكبار هذه المسائل في أعمالهم الرّوائيّة، وجسّدوا إشكاليّاتها من خلال أبطالهم. لعلّ أبرز مثال على ذلك الطيّب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشّمال” التي كان بطلها تجسيدا للصّدمة الحضاريّة التي يكون المثقّف أوّل ضحاياها. ولا شكّ أنّ القصّة القصيرة في الظّاهر لا تفتح ذراعيها لمثل هذه القضايا الشائكة الخطيرة –في الحدود التي اطّلعنا فيها على بعض الأعمال القصصيّة العربيّة- ولكنّ هذه المواضيع ستفرض نفسها آجلا أو عاجلا على ق.ق.ج . للإجابة عن الفرضية المطروحة في هذا المدخل سنختار قصّة “قطار الفجر” للأديبة المصرية هدى حجاجي أحمد، وسنتناولها تحليلا ومساءلة لرصد مدى إمكانيّة الزجّ بق.ق.ج في قضايا اختلاف الثقافات في ظلّ فلسفة العولمة من ناحية، ومسائل الإنّيّة والغيريّة من ناحية أخرى. في جوهر القصّة أ- صفة الكتابة في قصص هدى حجاجي أحمد في أكثر من قصّة اختارت الكاتبة أن يكون مجرى الأحداث في إطار مكاني يقوم على نظام “الفاصلة” أي يلعب دور الفصل بين زمنين أو مكانين أو شخصيّتين أو حضارتين… كالطائرة في قصّة “الإقلاع” أو القطار في هذه القصّة “قطار الفجر” ، ممّا يجعل القصّة أقرب إلى أدب السّفر. والسّفر في هذه الأعمال حقيقة ومجاز، حقيقة يمثلّها بطل ورقيّ –وإن كان متخبّلا- يتحوّل ارتحالا من مكان إلى آخر. ومجاز حين تُكسى الرّحلة برداء رمزيّ فتصبح خلفيّة تحمّلها الكاتبة جملة من المواقف الفكريّة والحضاريّة تتعلّق بالاختلاف الثقافي وما يتّصل به من المواضيع. وإذا جاز ذلك وسمنا قصص هدى حجاجي أحمد بأنها قصص السّفر والرّحلة كما وُصفت روايات الأديب الكبير حنّامينا بأدب البحر وإن اختلفت ألوان القصّ عند الطّرفين. ب- عناصر المكان والإحالة على المسألة الحضاريّة تجري أحداث القصّة في محطّة السكّة الحديد، نقطة البداية ونقطة التّحوّل في الزمان أيضا. القطار الدّوليّ على أهبة الانطلاق من برلين ليعبر آخر ألمانيا جنوبا مرورا بفيرونا وفينسيا وهي مدن تختزل المدنيّة الغربية وثقافتها وطبيعتها، تلك الحضارة الوهّاجة في عين الشّرق والتي تجري بسرعة كما تتبدّى للسّارد وهو ينظر من نافذة القطار: “البلاد تجري بسرعة هائلة”، وهي عبارة رمزيّة توحي بالموجة الحضاريّة السّريعة للآخر/الغرب، وببرقه المتألق الذي يلعق البصر: “المناظر تلعق بصري” . وتلعب الومضة الورائية دور بناء المقابلة بين هذا العالم/الغرب الزّاهي بما وصل إليه من تقدّم وبين العالم العربي الذي يطرد أبناءه ويرميهم خارج أسواره، ويُرخي السّارد العنان للذّاكرة تستعرض وجوه القبح هناك وتجلّيات التّراجيديا الاجتماعيّة التي اضطرّته إلى “الضغط على مشاعره” وهو يستسلم للبوح بأحاسيس الانكسار والخيبة في أسلوب إنشائي مأساوي: “كم ذبحتنا أيام البطالة بوجهها البشع، وكم تألمت لرؤية السّكارى، والذين ينتحرون في الهدوء والصمت واللّاعمل” هذه هي مواصفات البيئة العربيّة التي لا تنتج إلا المهمّشين والمرضى والمنتحريين رغم ثرواتها في البرّ والبحر. تتضمّن هذه المقارنة موقفا فكريّا من قضيّة ثنائيّة الأنا والآخر. لذلك تتحوّل الرموز المكانيّة إلى أدوات فنيّة تبحث في قضيّة النهضة والتخلّف من حيث المظاهر والأسباب وإن لم تصرّح القصّة بذلك، لكنّ القطار في هذا العمل الفنيّ يعرّيه ويعبّر عنه. فالقطار يكفّ عن كونه وسيلة نقل للمسافرين ليصبح رمزا للقطار الحضاري الذي يجب ركوبه للخروج من التخلّف والالتحاق بركب الحضارة الغربيّة حتى وإن كانت الرحلة صعبة لكثرة وجوه التخلّف وتعدّد الأحلام الحضاريّة كما تحيل على ذلك كثرة الحقائب، وحتى وإن كانت الحركة الانتقاليّة تتطلّب جهادا وصبرا ومحاولة وإعادة المحاولة كما تشي بذلك عبارة السّارد: “والحركة ما بين الصّعود والهبوط” إنّ القفز من تحت الأرض إلى ظهر محطة السكّة الحديد هو الرّسم العاكس للأسفل/التخلّف من ناحية والأعلى/التقدّم من ناحية أخرى. وعلى هذا الأساس تصبح قصة ”قطار الفجر” قصّة النهضة وسبل تحصيلها، وقصّة التّقدّم وطرق تحقيقه. ولهذا أيضا أقامت الكاتبة عنوان عملها على التركيب الإضافي “قطار الفجر” وهو جماع المكان والزمان. يشي المكان بالمسيرة ويلمّح الزمان إلى منتهى مطلب تلك المسيرة وهو الفجر رمز اليقظة وبداية العمل، وهو أخيرا رمز النهضة. إذن فالمسألة الحضاريّة هي جوهرالقصّة دون أن نغفل الهموم الشخصيّة للفرد العربيّ الذي يختار الغربة اضطرارا بسبب الفقر والبطابة والتهميش. القصّة القصيرة إذن انطلاقا من “قطار الفجر” بيّنت قدرة هذا الجنس الأدبيّ على تبنّي القضايا الحارقة التي تهمّ الحضارة المتهرّئة التي ترضخ تحت وطأة التخلف والتردّي. ج- الاختلاف الثّقافيّ ومسألة الإنيّة والغيريّة ضمّنت الكاتبة في قصّتها قصّة فرعيّة بطلها امرأة ألمانيّة يحاكي جمالها المجسّم في زرقة عينيها وشعرها الأصفر وبشرتها البيضاء جمال الحضارة الغربيّة بريقا ولمعانا في اختلاط ساحر للألوان. هذا التّوظيف/التّضمين يفتح ملفّا آخر في مسألة العلاقة بين الأنا والآخر وهو ملف طرق التفاعل والتواصل دائما في إطار القضيّة الحضاريّة. كيف تنظر الشخصية االعربيّة إلى الأنموذج الغربيّ؟ هل تسعى إلى السّير في ركبه؟ أم ترى فيه أنموذجا- في عاداته وتقاليده- مثالا للرداءة؟. للإجابة عن هذه الأسئلة نسنحضر الشخصيات الفاعلة في القصّة المضمّنة. ففي الجهة الأولى داخل الغرفة في القطار نجد المرأة الألمانيّة صحبة ولدها، وفي الجهة المقابلة نجد السّارد وزميله. وهما في طريقة تعاملهما مع المرأة الأجنبية مختلفان في الموقف والرّؤية. إنّهما يجسّدان موقفين متباينين. يذهب الأول إلى الانصهار في الآخر، ويرضى بالذوبان فيه عبّرت عنه القصّة من خلال حدث اللّيلة الساخنة التي قضاها زميل السّارد في فراش المرأة الألمانية. فهذا التواصل الجنسي يعبّر عن رؤية الانخراط في نمط حياة الحضارة الغربية بمقتنيانها التّقنيّة وبثقافتها التحرّريّة القائمة على أساس الحقوق والحريّات الشخصيّة ومبادئ العدالة والمساواة التي تضمّنتها الثورة الفرنسيّة. أمّا الموقف الثاني فهو موقف محافظ متوجّس يرى في ثقافة الآخر وعاداته خطرا على هويّته. تجسّد ذلك في ردّة فعله المتقابل مع سلوك زميله. فقد تلهّي باللامبالاة والنّظر عبر نافذة القطار إلى المناظر الطبيعيّة ولم يفكّر في خيانة زوجته وتبنّي أفكار التحرر والانعتاق من قيود العادات والتقاليد وهي الأفكار التي تضمنتها فلسفة التنوير وتطوّرت في ظلّ النظام الرأسمالي. سلوكان يعبّران عن موقفين فكريين في الثقافة العربيّة من مسائل التواصل الحضاري والعولمة والإنيّة والغيريّة وهي القضايا الفلسفيّة الملحّة اليوم في مجتمعنا الذي أعياه البحث عن سبل الخروج من حالة التردّي. وهي مسائل تبنّتها قصّة “قطار الفجر” دون أن تصرّح بذلك لأنها تقوم على الإضمار. فأثبتت أن ق.ق.ج يطول لسانها وتقوم قدماها وييعلو صوتها إذا أراد كاتبها منها ذلك.
على سبيل الخاتمة
القصّة القصيرة تكتفي بطرح الأسئلة ولا تجيب، تترك مجالا حيويّا لتستمرّ بوجودها كأفلام الرعب الحديثة، تنبني القفلة فيها على الإثارة وتمديد أفق الانتظار على أساس المعاودة والبدء من جديد. وهذا ما أعلنت عنه الفقرة الأخيرة في “قصّة قطار الفجر” على لسان السارد :” وهرولنا لنلحق بالقطار في اتجاه آخر”. هكذا تكون طبيعة القفلة في هذا النوع من القصص وهي طبيعة البحث في اتجاه اخر والانفتاح على أفق جديد.
النّاقد والشاعر التونسي: فتحي الحمزاوي