بقلم:الناقد الأمين بحري
أولاً- أزمة العنونة وعلاقتها بالنص
إن أولى القضايا التي تبرز للقارئ عند قراءة نص “هجرة حارس الحظيرة” للروائي الناشيء نجم الدين سيدي عثمان، هي الصلة المتناغلة بينه وبين المتن، إذ إن العنوان في هذا النص هو أول قارئ للمتن، بل إن أزمة النص فيه ناشئة من فرط التطابق الدلالي والإحالي بينه وبين العنوان الذي يلخصه ويتطابق معه حد محوه وقتله أمام القارئ، الذي يجد بأن مواصلة قراءة نص أعطاه كاتبه كل مفاتيحه في العنوان يعتبر نافلة، وتحصيل حاصل. لأن العنوان أنهى كل توقعات القارئ ولم يترك له نافذة مخيالية أو تأويلية ليتوقع شيئاً خلاف ما ينصه العنوان الذي يقوله له بأن حارس الحظيرة بصدد الهجرة، وهو ما سيقع بكل بداهة وآلية، لأن حكايته وجدها ملخصة مسبقاً في العنوان الذي لا يطرح أشكالاً سردياً ولا يلعب حتى الدور المنوط فنياً وجمالياُ بالعنوان الروائي:
فليس هو بالعنوان الإخباري الذي يتميز بقصر عباراته وومض إشاراته في كلمة أو كلمتين، ترمز للموضوع دون الإفصاح عن فحوه، بغرض إثارة فضول القارئ وجذبه لكشف مكنونه الرمزي في المتن، ولا هو بالعنوان الاختصاري الذي يترك شطر التوقع للقارئ والنص والتأويل، وإنما اعتمد الكاتب عنواناً موضوعاتياً، مركباً تتوزع كلماته على كامل أطوار المغامرة السردية، مما جعله أيضاً عنوانا من النوع الشامل الذي يختزل الوقائع السردية، ويستهدف بشكل مباشر كشف الموضوع المركزي للنص ووصفه بصورة كلية، بحيث لا يترك أي سر أو لغز أو استفهام أو تمويه استعاري أو ترميزي، في ذهن القارئ، الذي يجد النص ملخصاً مختزلاً بالكامل في عنوانه، مما ينفي عنه أي جهد تأويلي لأن الكاتب قد فك جميع إشكالات النص في عنوانه قبل أن يبدأ. مما قضى على وظائف العنونة المعروفة [- التعيين الوسمي للعمل – التعيين الرمزي للمحتوي- جذب الجمهور المؤسس على التعيينين السابقين ]، والتي رصدها علماء العنونة: شارل غريفل، وليوهوك، وجيرار جينيت، في المدونات السردية الكبرى التي وصفوا واستخرجوا وظائفها وسماتها العنوانية. ثم جمعوها موجزة في تلك الوظائف الثلاث الشاملة. التي لم نتبين لها أي أثر في استراتيجية العنونة لهذا العمل. والتي فككها المؤلف قبل أن يفعل ذلك القارئ أو الناقد. فأعفى الجميع من أي جهد تفسيري، ملغيا (وظيفيا) قيمة أحدهما (العنوان أو النص) وجاعلاً من وجوده نافلة من نوافل السرد، من فرط التطابق مع الطرف الآخر حد التماهي، بدل أن يكون وجود أحدهما تكميلياً (خاصة من حيث الدلالة الرمزية) لدور الآخر كما تقتضي وظائف العنونة.
ثانياً- من التفكيك الذاتي إلى التفكيك الموضوعي
يقول عنوان الرواية بأن النص يتعلق بهجرة حارس حظيرة (parking)، فيحمل القارئ في ذهنه فكرة أن هناك حارس حظيرة سيهاجر، وبالفعل هذا ما يحدث: عند الصفحة العاشرة، حين تبرز فكرة الهجرة في ذهن شركاء مهنة الباركينغ: العياشي(البطل/الراوي) وسمير وكمال الذي يخبرنا برغبة جامحة في الهجرة من الوطن، بقوله مستعيراً لسان الشاب حسني، [علاه الباسبور كاين والهدّة لا..].
لتكون بقية صفحات الرواية ال 227، تحصيل حاصل لهذه الرغبة، حيث تتم هجرة هذا الثلاثي بالفعل تطابقاً مع ما وعد به العنوان، وما يكون على القارئ معرفته سوى: كيفية هذه الهجرة، ما دامت مسبباتها (فقدان الأمل والبؤس الاجتماعي) قد أعطيت له في الصفحات الأولى من الرواية.
ولم يكن حظ القارئ من النص، بهذه الضآلة لو لم يقم العنوان وبعده مدخل الرواية (الصفحات الخمس الأولى) بحسم جميع قضايا النص من معرفة الموضوع إلى تلخيص المغامرة السردية، إلى سد جميع أفق التوقع والإجابة عن عقدة النص التي تم حلها مسبقاً بين العنوان وصفحات البداية. لذلك لن يجد القارئ- وهو يتابع أطور الحكاية- أي عقدة تسترعي تشويقه من أجل توقع وافتراض حلها، نظراً لاستراتيجية الكاتب القائمة على تقديم الحلول المسبقة (عن طريق تقنية الاستباقات الزمنية) التي استعملت بغير ما وضعت من أجله، إذ بدل إيقاع القارئ في تشويق يشحن مسارات السرد القادمة بعقد إضافية، قامت استباقات النص بتسريب أهم أسرار الحكاية، وهذا ما سيحدث أيضا في الصفحة 182، حين يكشف الروائي دخول البطل الراوي (لعياشي) السجن دون مقدمات، أو أسباب، فيعرف القارئ مسبقا أن بطله دخل السجن وخرج (لتكون الأسباب التي تأتي بعد النتيجة نافلة بدورها، كونها في حكم المتجاوز والمنقضي سلفاً)، كما لو أنه منح القارئ مفاتيح جميع الأبواب، قبل وصوله البيت، ومنحه محتويات الغرف قبل أن يلجها. فيكون دخوله خال من أي اكتشاف أو مشكلة تعترضه أو يتوقعها فينكسر توقعه ويحدث المنعرج السردي. وهذا ما لم يحدث بسبب استراتيجية السرد المكشوف. الذي أنتج نوعاً من المجانية فيما يسرده الكاتب، وضعت – موضع النافلة- كل ما سيقرأه القارئ في المائتي صفحة القادمة.
ثالثاً- مجانية السرد
يُقصد عادة بمصطلح المجانية، تلك المشاهد واللوحات والمقاطع غير المبررة فنياً ولا مرجعياً، أين يكون وجودها زائداً معرقلاً لسيرورة بقية المشاهد وخطية الأحداث، أو أن وضعها الطفيلي يجعل التخلي عنها، أفضل للنص وللقارئ من وجودها، فإذا كانت النافلة النصية تقضي على أفق التوقع بتسطيح وتبديه معالم النص ووقائعه، أمام القارئ، فإن المجانية تثقل كاهل النص بزوائد، يكون إسقاطها تهذيباً يزيد النص خفة وجمالية وإحكاماً.
تبدأ المقاطع المجانية في هذه الرواية بعد نهاية الفصل التقديمي الأول، أي مع بدابة الفصل الثاني، حيث تدخل الرواية في دوامة مشاوير متماثلة البداية والنهاية والنتائج، انطلاقا من حي الكدية (حيث يسكن البطل/الراوي العياشي) نحو وجهات متعددة. على النحو الآتي:
– ذهاب وإياب لمدينة لخروب
– ذهاب وإياب لمقهى الحي
– ذهاب وإياب للقرية
– ذهاب وإياب لوسط مدينة قسنطينة
– ذهاب وإياب لجبل الوحش
– ذهاب وإياب للقالة
تدوم هذه المشاوير المتماثلة بشكل تكراري من الفصل 02، [ص16]، إلى غاية الفصل 12، [ص126]. أي ما يزيد عن 100 صفحة يمكن عنونتها بفصل المشاوير المتردة، لأن صبغة التردد العبثي هي الظاهرة الأبرز على مشاوير البطل.
وللأسف لم يكن هذا التردد بنيوياً أي خادماً لاستراتيجية السرد وتقدمه، لأنه تردد نكوصي ودوراني حول نفسه، لا يحيل إلى على مفهوم التردد ذاته ولا يؤدي إلى مشروع خارجه.
وحتى عبثية هذا التردد ليست بنيوية بدورها، أي إنها لا تدخل في المشروع السردي للبطل كما نشهده لدى بطل رواية الغريب لألبير كامي، أو روكنتان، في غثيان سارتر، وغيرها من شخصيات الأدب العبثي أو اللامعقول، المفضي إلى رؤية فلسفية يطورها أولئك الأبطال. بعبثية بنيوية تعمل كآلة محركة لكل عناصر النص وأخطاباته، وتدفع السرد نحو التحول والحركية التي لا تعيده على أعقابه.
ما يعني أن فكرة التردد ليست مترددة في كتابتها، بل متطوره ضمن مشروع كما شاهدناه هاملت (وهي مسرحية، لكن ما يهمنا فيها هو كيفية تطوير فعل التردد عن طريق السرد التقدمي للمغامرة)، وأن فكرة العبث ليست عبثة في حد ذاتها، بل فكرة تقدمية بانية لمشروع متطور لا عبث فيه، أي إن الموضوع مهما كان دائرياً فإن فكرة كتابة ليست كذلك. وهذا ما حرم منه النص حيث وجدنا بأن فكرة التردد قد صيغت بسرد متردد استغرق أكثر من 100 صفحة دون أن يقول شيئاً إضافيا خارج ما قاله في مشاوير متكررة منذ الفصل الافتتاحي، كما وجدنا فكرة العبث فكرة دورانية حكمت الموضوع والكتابة معاً. وحرمته من التقدم أو التطور، لأن هذه الفكرة تم التخلي عنها نهائياً بداية من الفصل12 الصفحة 126، حيث نشهد أول منعطف سردي وكأنه هو الفصل الثاني الحقيقي، الذي ستتحرك فيه عجلة السرد لأول مرة بعد دوران ذاتي استغرق أكثر من 100 صفحة في تكرار مشاوير مجانية ما فتأ كل مشوار يكرر الذي قبله بناءً وخطاباً ودلالة. لكن بعد الفصل 12، نشهد منعرج الرواية، الحقيقي وبداية أول العقدة في النص (التي جاءت متأخرة كثيراً، حيث لم لا يجد القارئ ما يشهده لأحداث النص أو يشوقه إلا بعد قطع نصف الرواية تقريباً من الدوران الذاتي)، وكأن الرواية تحركت فعليا وبدأت أولى احداثها بعد المائة صفحة التي تعقب الفصل التمهيدي.
رابعاً- رهان الوصف والسرد:
في نص هجرة حارس الحظيرة ، قدرة هائلة على التصوير المشهدي، عن طريق الوصف الخارجي للفضاء، وخاصة تلك النهايات المتحركة للفصول، في صورة نهاية الفصل الأول: [ركب دراجته النارية، اعتدل في جلسته، أدنى رأسه إلى المقود، واندفع يمزق الظلام.]. بمثل هذه النهايات المفتوحة للفصول يحبك الروائي مغامرة سرد يوميات العياشي واصدقائه المتراوحة بين حراسة الحظائر والتفكير في هجرة البلد.
لكن الإشكال أن بدايات الفصول جميعها متماثلة، مرتبكة ومملة ركيكة، كأنما الكاتب لا يحسن ابتداء فصوله ولا نصه (الذي تأخر حدثا وتعقيداً وجذبا للقارئ بما يتجاوز 100 صفحة كما أسلفنا)، وإنما يحسن الاختتام، ولو حدث العكس (حسن البداية بزرع تقنيات سرده فيها لجذب القارئ، وتعليق النهاية ليصنع أفق توقع لا منتهي التآويل) لكان النص من أبدع ما كتب في جيله.
ذلك الإمعان في وصف التفاصيل وسرد اليوميات لم يؤد إلى أية نتيجة على مستوى التعقيد والبناء، بل راح الاسترسال يتلو الاسترسال في وصف رحلة البطل ومشاويره داخل وخارج البلد بشكل دوراني يتكرر مع بدايةكل فصل.
هذا جعل قوة الكاتب في السرد ووصف اليوميات والفضاءات ومشاوير الرحلات (وهي نقطة قوة لديه) تقضي على بقية التقنيات السردية التي لم يتمكن منها أو أفلتها، فراح يعزف على نفس الوتر الوحيد، ويضغط على نفس الزر الذي يتقنه ويبرع فيه، حتى جعل الرواية تقف على رجل وحيدة، ولا تستعمل بقية قوائمها البنائية لتنهض بعالمها (خاصة البنية الزمنية وعلاقتها بالحدث، وكذا استراتيجية التعقيد)، فكانت عبارة عن وصف ليوميات روتينية للبطل داخل والوطن ووصف ليوميات الرحلة خارجه، ولا يوجد أي شيء آخر سوى سرد مشاوير يوميات ورحلات لا تنتهي.. مع ما رافقها من خيبات متماثلة معها، و التي حتى وإن أنهاها الكاتب عند عتبة ما في النص، فإنها لا تنتهي في ذهن القارئ لفرط تماثلها وانسيابيتها بشكل متوال وعبثي بصورة متطابقة مع يومياتنا خارج النص، وهو ما يهن التخييل في هذا النص ويضعه موضع تساؤل كبير ؟؟
وهذا الأسلوب (الإسفاف في سرد مشاوير اليوميات المتماثلة) هو الذي نجده سائداً لدى عديد الأقلام التي اقتحمت عوالم السرد دون عدة روائية، في صورة الكاتبة السعودية أثير عبد الله النشمي في كل ما كتبت، دون أن تصنع في النهاية أي عمل روائي سوى سرد مسترسل لليوميات والمشاوير محشواً في مؤلفات اختلفت عناوينها وتماثلت محتوياتها، التي لن تختلف في ذهن القارئ حتى وإن كتب فيها صاحبها ملايين الفصول والمجلدات. سرد مجاني بلا تخييل روائي، حدود صنعة صاحبه تتلخص في استرسال واصف لا يختلف في شيء عما نحيكه في كمجتمع واقعي. ولن يكون هذا إلا من نوافل الكتابة إن خلا من الهوية الروائية وبنائها المخيالي، الذي يحيا بحوارية التعدد والتوحد: تعدد الخطابات وتنوع البنيات، وتوحد استراتيجية الحبك والتعقيد في بناء المنظور والرؤية، لا بقتلها اعتمادا على تعقيم السرد بأحادية التقنية والمنظور وتكرارية تماثلية للوحات والمحكيات والدلالات. هو ما قدم للسردية العربية في غالبية ما تنتجه اليوم؛ سرداً مجانيا بلا مزايا روائية.
———————-
م. أ. بحري