يمامةٌ وحبٌ موسميٌّ
أدخلوه غرفتي، وقالوا: يا سناء هذا سعيد، عامل موسمي مثقف، دربيه وشغليه!… أنا فتاة لا أطيق سماجة الرجال!… سأفتعل أي أمر لإفراغ الغرفة منه، قبل أن يدفأ مكانه!
خيم صمت مقيت، وبقي تمثالاً: لا يتكلم ولا يتحرك ولا يرفع نظره… نفذ صبري… علي افتعال أي شيء!
اخترت أصعب الكتب طباعة وتنسيقاً، وأعطيته إياه، وتقصدت أن تلمس يدي يده، علني أفتعل شجاراً!… سحب يده بخفة، وابتعد بكرسيه الدوار… احمر وجهه النحيل، فبدت ذقنه أشد سواداً، وتراقصت أنامله وكأنها تعزف على الأورغ… كان الكتاب رائع التنسيق؛ واستخدم تقنيات لا أعرفها!… لقد نجا بجلده هذه المرة!
دخلت سوسن وسلمت عليه بحرارة، إنه ابن عمتي، لم أره منذ فترة طويلة!… والتفتت نحوه وقالت:
– هات أسمعنا آخر قصيدة كتبتها!
– لقد انقطعت عن الكتابة!
– لماذا… هل ماتت شيطانة شعرك… أم اختطفت رجلاً سواك؟!
– الظروف!…
– قصيدة قديمة، لا يهم، المهم أن تكون غزلاً!
شعرت بالغيظ، ولكنني صمت… أهذا أوان الشعر والغزل؟!… تلك السميكة، ستفتح له باباً للسماجة!
أبديت عدم اكتراث، وحاولت ألا أسمع… ولكن صوته كان دافئاً حنوناً، وإلقاؤه يشد القلب من عنقه، والقصيدة تتسرب في أعماق الروح، كمطر ينزل على أرض عطشى… ترى من أين جاء تمثال الصعلوك هذا بهذا الشعر الجميل؟!
حين أتمّ القصيدة صرخت بغير وعي: رائعة… رائعة… لقد أبدعت!… أقصد أنّ…
فتدخلت سوسن لإنقاذي من الحرج:
– إنها رائعة بالفعل… حرام أن تنقطع عن الكتابة، جدْ لك شيطانة شعر جديدة!
في اليوم التالي عاد التمثال إلى منصته، بعد أن أوقدت قصيدته الجمر من تحت الرماد!… صوته لا يزال في أذني… جهزت القهوة، وجلست جانبه، تعمدت أن تلمس يدي يده ثانية، ولكن هذه المرة ليس لافتعال شجار! سحب يده من جديد!…
– أنا وريثة أبي الوحيدة، والدي غني، والوظيفة لدي لقضاء الوقت!… وأنت ماذا أورث لك أبوك؟!
– كما قال البدوي: (نعجة وفطست)!
تسرعت ثانية، وأوقعت نفسي في الحرج! ولتدارك الموقف طلبت منه أن يعلمني على التنسيقات التي استخدمها في الكتاب… كان يشرح بحماس… وكنت لا أسمع شيئاً، ولا أرى شيئاً…
طلبت منه أن يسمعني القصيدة ثانية، ولكنه فاجأني بقصيدة جديدة، عنوانها (المتعجرفة)، كانت أروع من سابقتها، ورغم أنها تحدثت عني، لم أفتعل شجاراً، ولزمت الصمت!
في كل يوم تبزغ شمس جديدة، وقصيدة جديدة، وقهوة… وتعليم لم أفقه منه شيئاً!… كانت قصائده لي!… من أين جاءني هذا الموسمي، فأوقد في داخلي شعلة من جحيم؟! ولماذا أمضي في لعبة النار، ما دمت أكبره بخمس سنوات؟!… سألته مرة: لمن تكتب، فأجاب: لليمامة!
انقضت العطلة كأنها الدهر!… صمته يمزق أوردتي! شروده يقذفني إلى يم مجهول…
– ألم تكتب لي شيئاً… أقصد لليمامة؟!
– لليمامة بلى: (اليمامة وقهوة الصباح)!
أخذ يطبع قصائده على ورق وردي بحجم نصف ورقة الحاسوب، ويجمعها في ظرف، ومع اقتراب نهاية العقد، أخذ الحزن يصبغ قصائده… ويدثرني بعباءة سوداء… يا للحظ… لو كنت أصغر بخمس سنوات!
في اليوم قبل الأخير تخيلت الدمع يسيل من مقلتيه، وتخيلته يمسحه بمنديل!
– ألم تكتب لليمامة شيئاً؟!
– لقد طارت اليمامة!
– أشعارك جميلة… لا تدعها تطر!
أطرق ولم ينبس ببنت شفة!
في اليوم الأخير تأخر على غير عادته… اشتعل في قلبي اللهب… اليمامة تخفق في قفصي الصدري، ولا تستطيع الإفلات… الأرض تدور!…
قدم لي زهرة ياسمين، وكتاباً أنيقاً مجلداً تجليداً فنياً، أوراقه وردية، وغلافه أحمر، وعنوانه باللون الذهبي: (يمامةٌ وحبُّ موسميٌّ)… وكتب على صفحته الأولى بخط يده: يقول صديقي الشاعر:
(الفقر كلبٌ أسود… يختار لي: بيتي… وصحبي… والحبيبة)!
يده لا تستطيع الإفلات من يدي، أحاول الاحتفاظ به… إن كان الفقر هو السبب… أقصد… كنت أظن أن العمر…
أفلت الموسميُّ يده من يدي ومضى… لم يبقَ لي إلاَّ رجلٌ مسطرٌ في كتاب ورديّ!