السعيد بوطاجين
أسماء جميلة تلك التي أسندت إلى القنابل النووية في الصحراء الجزائرية الكبرى، إنها تشبه تماما كلمة بلبل عندما ننعت بها قنبلة ذرية تأتي لبناء حضارة خاصة، قنبلة *مهمة*، من نوع خاص، قنبلة صديقة لا تنتج سوى التشوهات والفناء الذي توزعه الأمم الراقية على الإنسان في الأراضي البعيدة: ذاك ما تلخصه الرواية بسخرية، وبألم فصيح.
*إنها لفظيعة تلك الأسماء التي أطلقناها على جرائمنا، وقحة و وحشية. أريد أن أفضح هؤلاء الدنيئين الذين ابتكروا هذا: اليربوع، العقيق، غبار الطلع، الإعصار الحلزوني، الولد الصغير.*
ورد هذا المقطع الصريح على لسان إحدى الشخصيات في رواية رقان حبيبتي لفيكتور مالو سيلفا، منشورات عدن، الجزائر 2013، ترجمة السعيد بوطاجين. الرواية إياها ذات جرأة نادرة في تاريخ الأدب الذي عنى بموضوع التجارب النووية إبان الاحتلال الهمجي وبعده، أي إلى غاية 1966.
لقد ركز الكاتب في نصه، الذي يتراوح ما بين التحقيق والشهادة والسرد الروائي والسيرة الذاتية، على الجريمة التي اقترفها الغزاة وباركها العالم الحرّ بسكوته المعلن عن الخراب. تماما كما فعل المستعمر عندما سوّق للتجربة على أنها لا تتعدى فكرة ارتقاء فرنسا إلى مصاف الدول الكبرى، دون الإشارة إلى الآثار التي تركتها، تلك التي ستستغرق قرونا طويلة، عكس الدعاية المتواترة سياسيا وإعلاميا، تلك التي تدّعي محدودية التأثير زمانيا ومكانيا، في حين أنّ الأمر مختلف.
كما يدلّ مطلع النص على حالة الإرباك التي استبدت بالسارد وقد بلغ مرحلة متقدمة من الضياع و التوتر، حالة من فقدان العلامات الدالة على أحاسيسه المتصارعة. إضافة إلى ندمه على الصمت الذي لازمه أعواما، دون أن يجرؤ على تدوين ما عاشه وما رآه وما سمعه عندما كان في الصحراء الجزائرية، محاربا في صفوف الجيش الفرنسي، وشاهدا على التجربة النووية وبؤس الناس، على الأقل كشخصية، أو كعارف يملك حقائق مختلفة، ودقيقة.
كانت البداية، بداية الكتابة، بالنسبة إليه، ضربا من العبث، شيئا من المرارة، وأمرا غير ذي معنى وقد مرّ وقت طويل عن تاريخ الوقائع التي ظلت عالقة بذهنه، تفصيلا تفصيلا. ثم… لماذا يكتب الآن؟ ولمن؟وما الفائدة من العودة خمسين سنة إلى الوراء لنقل ما رآه وما عاشه هناك عندما كان ضابطا في جيش مكلف بنشر التقدم والقيم الإنسانية التي دعت إليها فرنسا في المحافل الدولية.
وتعود به الذكرى إلى مسوغات الجريمة: *يقول الوزير أو الوزير السابق: إننا نمثل التاريخ، أو شيئا كهذا، ولولانا لما استطاع الآخرون، أولئك الذين لا يجب أن نعتذر لهم مرة ثانية، لأننا فعلنا ذلك مرارا، أن يخرجوا من جهلهم، من خيامهم البدوية، من بيدائهم و من بؤسهم.كنا حظهم في التاريخ، ليس لنا أن نعتذر، بل عليهم أن يقولوا لنا شكرا.*
يبدو هذا المدخل مصيريا بالنسبة إلى مسار الحكاية برمتها، كما المقاطع الأولى التي تعد فواتح تسهم في الكشف عن الرؤية المضادة التي ستتحكم في الموقف العام للسارد، مقابل المبررات الغيرية ومختلف الأحكام و التأويلات المعلنة هنا وهناك لتبرئة الذمة.
ربما فسرت المفارقات، كسمة غالبة على النص، ذلك التعارض الذي يبعد الخطاب الرسمي والإعلامي عن واقع مختلف، أي تلك المسافة التي تفصل ما بين ما حصل عينيا وما نقله الخطاب السياسي في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الصحراء حيث تقبع حموديا، منهكة وجريحة باستمرار.
ما بين الحاضر و الذاكرة يقف السارد حائرا.كان الحاضر معتما ومزيفا لأنه يجسد الآخر ومفهومه للجريمة المقننة التي قام بتلميعها بطرائق مختلفة. في حين ظلت الذاكرة مليئة بالأسرار، و مصدرا للموقف المحايد، لإدانة الدعاية التي اعتبرت التجارب النووية فعلا حضاريا وجب الاحتفاء به في باريس.
وقد تتجلى هذه الإدانة في شكل العرض، كما في السرود الذاتية التي تتواطأ في الموقف ليغدو السارد مساويا للشخصية. أمّا الصفات التي تشغل حيزا معتبرا فتحيل على ضرب من التواطؤ مع الشخصية الضحية، حتى في حال استعمال النعت في غير أبعاده الحقيقية على مستوى التجليات الجملية. ما يفرض التعامل مع معنى المعنى للكشف عن مقاصد السارد التي لا تصرح بها بعض الاستعمالات، أو ظاهر الألفاظ التي تستدعي الكشف عن المقاصد الفعلية للكاتب، أو للسارد.
الصدام المدمّر: الحكاية في كتاب رقان حبيبتي متشعبة لأنها حكايات مركبة بشكل لافت، من حيث التنوع والأبنية المتفاوتة، وقد تتخللها اعترافات ذات علاقة سببية ووظيفية بالمنحى العام لمسارات السارد الأساسي و الشخصيات، على اختلاف مستوياتها ومنطلقاتها التي تحدد الرؤية.
تشكل الحكاية صداما بين العسكري الفرنسي المنفذ لأوامر المسؤولين، وبين ضميره اليقظ الذي يؤمن بالأخلاق. وخلافا للاعتقاد الوارد في بعض الكتابات والمعتقدات السائدة، وفي بعض التأويلات، فإن هذا الضابط الفرنسي لم يكن ضابطا أصلا. إنه الكاتب نفسه الذي تقمص دور العسكري. فيكتور مالو سيلفا أستاذ جامعي ، ولم يزر الجزائر سوى مرة واحدة (مدينة باتنة).
أمّا ما نقله عن التجارب النووية وحياته في الجنوب فلم يكن سوى نتاج متخيل ومراجعة للمخطوطات المتوفرة، وغير المتوفرة التي كانت آثارها واضحة في المتن الروائي. للعلم فقد وردت في الرواية معلومات قيمة يتعذر الحصول عليها بسهولة لأنها ذات قيمة استثنائية. الكاتب يفضح الجريمة بمراجع وأسناد، وبدقة واحترافية. يجب قراءة النص لمعرفة الحقيقة ــ اللعنة التي عالجها بذكاء ومرونة، وبنباهة كبيرة.
لقد كان السارد متأزما، وكان عليه أن يسكت خدمة للجهة التي ينتمي إليها، أو أن يكتب لإرضاء ضميره الذي يؤرقه منيجة المعايشة والمكابدة، و من ثم السباحة ضد التيار، لأنّ الكتابة، في هذه الحالة، ستكون بالضرورة كتابة مضادة، مقلوبة، وستكون الحقائق مثيرة، مقارنة بالحقائق التي يتداولها الخطاب الرسمي بخصوص الحرب والتعذيب والكارثة النووية في الصحراء الجزائرية.
تمثل الكتابة، بالنسبة إليه، بحثا عن التوازن المفقود من سنين لأنه كان شاهدا. إنها نوع من الخلاص من الألم الذاتي، منقذ من الإحساس بالعمالة للشر العام، للتاريخ الكاذب، لحضارة قامت على الابتزاز والدم والجرائم.كما أنها إدانة للذات، للجهل، للتكوين التاريخي، للشوفينية الغبية، للمعتقد الذي جعله يؤمن بأن لفرنسا كلّ الحرية في القيام بأعمال وحشية مدمّرة للإنسان والأرض والسلسلة الغذائية.
عندما شكرت الكاتب فيكتور مالو سيلفا، الإيطالي الأصل، الفرنسي الجنسية، في مراسلة بالبريد الإلكتروني، على هذه الخدمة الجليلة التي قدمها للجزائر، ككاتب ملتزم بقضايا الإنسان في هذا العالم، أجابني بتواضع الأنبياء القدامى: أنا الذي أشكرك لأنك فتحت لي آفاقا جديدة إذ نقلت الرواية إلى العربية ليطلع عليها جمهور آخر قد يكون أكثر اهتماما بالموضوع: التفجيرات النووية في الجنوب ومخلفاتها الكارثية.
هل كان لهذه الرواية الرائعة صدى فعلي في البلد؟ وهل كان يجب الاحتفاء بهذه التجربة الراقية في زمن الإبداعات التي تخدم الأشخاص وشركات البؤس؟ وفي زمن الأدب المستلب الذي أصبح ذيلا للأنظمة وجماعات الضغط التي توزع الجوائز الكبرى تأسيسا على مصالحها؟
هناك كتّاب راقيون يستحقون أن يكونوا كتّابا لأنهم أحرار فعلا، لأنهم كبار وإنسانيون. لذلك يجب أن نقيم لهم تماثيل. هؤلاء هم إخوتنا الحقيقيون في هذا الكوكب الذي يحتاج إلى أخلاق، وقادتنا إلى الجمال الإلهي العظيم، وليس إلى جوائز مشبوهة تزكي الفساد والابتعاد الكلي عن قضايا الأمم، على حساب ما تبقى من القيم النبيلة. المناصب والجوائز لا تخلق سوى الكتّاب الصغار، الكتاب الظرفيين، أمّا الكتّاب الكبار فتصنعهم المواقف.
المصدر:https://www.eldjoumhouria.dz/art.php?Art=49611&fbclid=IwAR3Ms612FxQUxxFjfC1Bz8Ac3gk-U6Q2w9wasRsqZ35t4yyJrgbF1BIc4AI