أثار انتباهي، قبل سنين، كتاب الكشّاف للزمخشري في طريقة تفسير القرآن الكريم. وإذا كان صاحبه أحد أقطاب اللغة والبلاغة العربية، فإنّ منهجه في الطرح والشرح يدعو إلى التفكير ملياّ في طريقة التعامل مع المعجم والفكر، إلى إعادة النظر الجذري في علاقاتنا مع أيّ المنجز، أي في مسألة منظورنا اليقيني تجاه الموضوعات والأشياء برمتها، بما في ذلك ما يبدو مجرد مسلّمات ليست ذات شأن.
أشبّه النشاط الذهني للزمخشري، في هذا المجلد، بجهد هنري بوانكاريه، أو بطريقة تفكير السيد ألبرت أينشتاين في مبدأ النسبية. وأجد الكتاب ذا أهمية كبيرة في معالجة قضايا أساسية في القراءة والتأويل والجدل والتفسير، بصرف النظر عن كلّ القراءات الممكنة التي تدّعي مع تدّعيه.
هناك مسألة مثيرة يؤسس عليها هذا الجدّ البعيد زمانيا، دون تحديدها، بيد أنّه يمكن استنباطها من خلال المتن وسياق القول وطرائق التقديم والتدليل: التنوع المرجعي المركب الذي بنى عليه في التعامل مع الحقول المعجمية المعقدة، ومع المعاني. وقد نستشف ذلك من خلال الإحالات الكثيرة التي يعتمدها في أية مقاربة، وفي أيّ تفسير، حتى في حالة بداهته الظاهرية، كما يبدو لنا من خلال التجليات اللفظية. ثمّ يختم كلامه بنوع من الإمحاء الكلي الذي يجعله تحت المعجم، وتحت حدود الجملة والدلالة: والله أعلم… كم هي رائعة هذه العبارة العارفة بالمشكلة اللسانية والبلاغية.
إنّ الحدة التي تميز بعض جدلنا اليقيني ناتجة عن الأطر المغلقة للمنظومة المعرفية التي نقبع في دائرتها. أي عن المرجعية المعيارية التي تتحكم في الرؤية وتحدّ من عبقرية المخيال وتنوع أوجه الحقيقة الواحدة في أبعادها الممكنة، وفي انفتاحها على الفرضيات التي تنسف قناعاتنا، بداية من العنصر اللغوي الذي لا نتحكم فيه.
المرجع والتموقع أساسيان في الحكم على الشيء لأنهما موجهان، وقوتان ضاغطتان على الفرد والجماعة والتكتلات التي تفسر وفق منطلق ما، قارّ في أغلب الأحيان، وغير عارف بالجواهر،قلد لخص الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مسألة الموقف في جملة غاية في النباهة والدقة: *الواقع هو العين التي تراه *. لكنّ العيون مستويات.
لا يمكن الحديث عن مادة ثابتة ذات وجه واحد، الواقع نسبي ومتحول من راء إلى آخر، الشيء ذاته يتواتر مع الزمخشري في الكشاف. لقد كان يتعامل مع الكلمات بحذر العالم الذي يهاب الأحكام المنتهية انطلاقا من متكأ عينيّ، وبكلّ ذلك التواضع المدهش الذي فرضته عليه مختلف العلامات والسياقات والمضمرات والإحالات، ومعرفته الكبيرة بالشأن اللغوي وتفاصيله.
لم يلجأ في شرحه إلى القول الفصل، رغم زاده المعرفي الذي يتجاوز أثاثنا بمئات السنين. ولم يلغ الأسئلة الافتراضية التي يحتمل أن توجهه إلى دلالات أخرى تخص سياق البيان في علاقته بالتبيين. أي أنه سعى، كعالم بأسرار الكلمة ووضعها ومستويات استثمارها، إلى الأخذ بزوايا النظر وحمولتها وممكناتها التأويلية ،هو الذي نبغ في علم اللغة وفقهها ظل منتبها إلى إمكانات اللفظ وحمولته.
وعندما يعجز واحد من نوع الزمخشري عن تحديد معنى كلمة نراها بسيطة جدا، من منطلقنا الحالي الذي يعامل الأمور باستخفاف، فمعنى ذلك أننا دخلنا في مرحلة خطيرة من اليقين الذي لا يختلف عن عسكرة العقل والمعجم والبحث والموقف. كان الزمخشري يعتمد على مجموعة كبيرة من المساند لتفسير الكلمات التي تشكل البسملة على سبيل التمثيل، بداية من حرف الجر، إلى اسم الجلالة، إلى الرحمن الرحيم، كان يؤصل ويضبط من أجل الإحاطة بقضايا المعنى.
أمّا العسكرة العامة، التي تميز بعض جدلنا الحالي، فعادة ما تكون ذات علاقة سببية بجهل المراجع والمسارات والأصول والتشكلات، أو عن محاولة تقنينها وفق خيارات عابرة ليست مؤهلة أصلا لصناعة معرفة جامعة تُحصّن الخاص والمتباين في الوقت ذاته، ومن ثمّ الإسهام في تكوين موقف يتأسس على اليقين المطلق الذي يبني على الخواء، أو عن عجز عن الانفتاح على الممكنات الأخرى التي تثري المعنى، أو تقربه من المتلقي، دون أن تغلق عليه المنافذ الأخرى.
وحده العالم الكبير يدرك النسبية فيتعامل مع المعرفة بخوف وتردد، وبتواضع الإنسان الذي سيظل دائما في بداية الطريق إلى العلم. وأمّا المستخفّ بالعقل والثقافة والمرجعيات فيأخذ شذرات المعرفة كمعادلات منتهية لا يمكن نقضها لأنها الحقيقة الوحيدة التي يريدها، جاهزة وقابلة للاستهلاك الفوري. الثقافة ليست أجزاء متناثرة لا يربطها رابط، وليست تقديسا لمنظوراتنا.
مأساتنا تكمن في هذه المعرفة الإلهية التي تنزل على الأشخاص والجماعات والتكتلات في المقاهي والحانات والصالونات والفنادق، أي في استبدال مرجعية عارفة بمرجعية باهتة، متشظية، أقلّ معرفة من الأولى، أقلّ صفاء وإحاطة بالموضوعات، وأكثر قابلية لتخريب المعرفة والذات معا. إنها، من منظور آخر، تقويض لزاوية نظر أحادية، مؤسسة معرفيا، واستبدالها بزاوية نظر مضادة قد تكون أكثر نمذجة وفتكا بالعقل، وأقلّ شأنا من حيث الزاد والحجة، زاوية نظر ضد الممكنات، وضد التباين، وضد البحث، وضد المنطق الجامع.
لا أتصوّر كتابة أو حكما أو جدلا لا يقبل النقد والتراجع والتنازلات الضرورية التي يفرضها التطور المستمر للمنظومة المعرفية، والفكرية على حدّ سواء. كما لا أتصور ثقافة أو إبداعا يعتبر المساس به بمثابة مساس بالذات الإلهية. ولا يمكن أن تكون هناك ثقافة قابلة للنموّ والتقوية ما لم تستعمل أفعالا من نوع: يبدو، أرى، أتصوّر، أزعم، الظاهر أنّ، أعتقد، أو… والله أعلم. كما فعل جدنا الزمخشري وأمثاله، وكما يفعل أكبر الكتّاب والمثقفين في هذه المجرّة التي تستحق تواضعنا بالنظر إلى اتساع علاماتها، وبالنظر إلى محدوديتنا كبشر متحولين وعابرين. الحضارة ليست أنا…وحدي، والباقي مجرد سفاسف لا قيمة لها في الكون. أمّا المعرفة فهي السؤال الخالد، المساءلات التي تنتهي لتبدأ من جديد.
المصدر:https://www.eldjoumhouria.dz/art.php?Art=47258&fbclid=IwAR3vuqpQRzfW3EE8beuacsLW-vBYPuIONYfcKPIruGlKKzctxOLJzceWiwc