مرايا عاكسة

الفيلم: الاقتباس والمجاز

السعيد بوطاجين

من الورقة إلى الكاميرا:
الاقتباس: كان هذا العنصر، وما يزال، من أهمّ النقاط الخلافية التي أثارت نقاشا حادا بين مختلف الأطراف المعنية بالتبادل، كما عرف رفضا من قبل بعض الكتّاب الذين رأوا أنّ المخرجين يعتدون على منجزهم ومواقفهم، إمّا عن جهل، أو عن قراءة قاصرة، أو بسبب التأويل الخاطئ لما يقرأونه، أو عن طريق تصرّف مغال يمنح الكتابة وجها غير وجهها الفعلي.
يحدثذلك مثلا بتسبيق الإخراج على النص، ومن ثمّ حلول المخرج محلّ الكاتب، وظهور كتابة مصوّرةلا تقيم علاقة كبيرة بالنص، لا من حيث البناء ولا من حيث الموضوع والخيارات اللغوية والجمالية، وقد يتمّ التصرف في الرؤية إن اقتضى الأمر ذلك، وهذا الموقف، من منظور الكتّاب، ليس سوى اعتداء على كتاباتهم التي جاءت بعدوعي وممارسة. ما حدا ببعض المخرجين إلى البحث عن حلّ توفيقي، ومن ذلك الصيغ الثلاث التي تواترت في التعامل مع النصوص: مقتبس عن س… أو مقتبس بحرية عن س…، أو فكرة س…وإذا كان هذا الشكل تأكيدا على التقاطع الحاصل ما بين الكلمة والصورة، فإنه لم يوفق دائما في الحفاظ على شخصية الأولى، إن لم يسهم في تقويضها.
الإله المخرج:
كان الكاتب دومينيك باربيريس مستاء جدا من نتيجة اقتباس كتابه «الكناغر» وإخراجه سينمائيا.لقد لاحظ أنه غريب عن الصور المقتبسة من كتابه، أو أنه عبارة عن أحد المتفرجين المحتملين الذين لا علاقة لهم بالنص المقتبس للشاشة، نصه الذي عرف تغريبا على عدة أصعدة، فنية وبنائية ودلالية، الأمر الذي دفعه إلى المطالبة بإلغاء أية إشارة تدلّ عليه فيالجنيريك، كنوع من تبرئة النفس.
كما حصل مع ماري بيليثدو التي تأسفت للطريقة الغريبة التي اعتمدها المخرج زولاوسكي في التعامل مع كتابها «لياليّ أفضل من نهاراتكم». لقد رفضت عرض الفيلم في قاعات السينما،واعتبرته إساءة إلى عملها الذي كان مختلفا عن الصور المحاكية له، كما أشارت إلى ذلك في كتابها الموسوم:«أنا التي ما زلت أحدثكم»، تعليقا على التحويرات التي حصلت، والتي اعتبرتها مسيئة للكتاب، ومبعدة إياه عن هويته الحقيقية:« في كل صورة، وفي كل جملة وحوار، مسخ وتحريف، كأن ذلك من صلب عمله.»
فيلم زوربا:
لاحظ بعض النقاد أنّ الفيلم، رغم قدراته العالية في التعامل مع الرواية، كالمشاهد وتقنية تقديم الشخصيات وبعض العلامات بواسطة اللقطات القريبة أو المكبرة، أو تأسيسا على الموسيقى والإضاءة ومختلف التقنيات الأيقونية والبصرية، إلاّ أنه وجد صعوبات في التعامل مع بعض الكلمات والأفعال والصور البلاغية التي تتجاوز قدرات الشاشة بالنظر إلى استحالة امتصاص بعض المجازات سينمائيا.
كان فيلم زوربا للمخرج «مايكل كاكويانيس» مأثرة سينمائية بمجموع الحيل المبتكرة، ومنها الكوريغرافيا وموسيقى ميكيستيو دوراكيس التي بدت متممة للحكاية، ومدعمة لمجموع الحالات النفسية ومختلف الفضاءات الواردة في رواية نيكوس كازانتزاكيس، أو لرقصة زوربا التي ستصبح جزءا من التراث الثقافي اليوناني، لكنها ستنتقل إلى الثقافة ببعد آخر. مع ذلك، فإنّ كثيرا مما ورد في الفيلم سيبقى مثار أسئلة تخصّ مدى صدق الصورة ومرجعياتها النصية. لقد كان كازانزاكيس روائيا وشاعرا مكرّسا. وقد ظل حضور الثاني مؤثرا على الشكل السردي، لغة وتشكيلا واستعارة ومجازا، إضافة إلى ما صبغته ثقافته الفلسفية على الجملة، كبناء ومعرفة وإحالات مركبة.
يمكننا الاستشهاد بعدة عينات تعامل معها الإخراج بمستويات متباينة، ناقلا أجزاء من النص، ومتخليا عن أجزاء يبدو أنه كان منالمتعذر الحفاظ عليها في الفيلم، كما كانت في عالم الحبر، أو أنه تعذر على المخرج نقلها إلى الصورة إملائيا بسبب طبيعتها المعقدة، وخاصة ما كان ذا ارتباط بالحمولة المعرفية. وردت في رواية زوربا الإغريقي هذه الوقفة:«البحر الأزرق القاتم، الواسع، يمتد حتى الشواطئ الأفريقية. وغالبا ما تهب ريح جنوبية حادة جدا، تأتي الرمال البعيدة الحارة. وعند الصباح يعبق البحر كالبطيخ الأحمر، وفي الظهيرة يتبخر ساكنا، مع تموجات خفيفة كأثداء لما تتكور تماما، وعند المساء، يتنهد، ولونه بلون الورد، والخمر، والباذنجان، والزرقة القاتمة.»
ركز المخرج على عدة لواحق وحيل لنقل صور البحر والريح والبعاد والرمال والصباح والظهيرة والتبخر والسكون، مع تكلفة زمانية ومادية واضحة من حيث إنّ كل كلمة من المقطوعة تستلزم تركيبا لمجموعة من المشاهد،أو استعانة بمؤثرات مختلفة. هناك زحام كبير للأجزاء الممتلئة التي وجب مراعاتها أثناء التصوير من أجل ضبط المشهد ومكوّناته. وذاك ما يعكسه الفيلم بنوع من العبقرية. بيد أنّ المُشاهد، الذي سيستمتع بالتجربة الإخراجية المثيرة، سيختلف عن قارئ الرواية الذي قد يتساءل عن سبب اختفاء بعض المجازات المفارقة التي ابتكرها الكاتب ــ الشاعر، وهي مصدر جمال له قيمته الاستثنائية، والأرجح أن تكون هذه المجازات، بالعودة إلى الخيارات التواصلية للكاتب، أكثر أهمية من المشهدلأنهانابعة من تجربةسرديةمخصوصة. ومن ذلك هذه الصور المنتقاة بعناية: يعبق البحر كالبطيخ الأحمر، تموّجات خفيفة كأثداء لما تتكور تماما، يتنهد، لونه بلون الورد، والخمر، والباذنجان، والزرقة. كأنه كان يرغب في نقض مقولة: « إن اللغة لا تبلغ أبدا الأسرار النهائية للفرد.» لسنا ها هنا أمام مشهد موحد الأجزاء فحسب، أو أمام إضاءة ناقلة للمحيط الخارجي للشخصيات تأسيسا على خيارات وصفية لها مسوّغاتها الجمالية، وتحديدا لعنصر المكان الذي تدور فيه الأحداث. إننا، في واقع الأمر، أمام صور ــــــ موضوعات استدعت اشتغالا خاصا، ومن ثمّ ورودها كشكل تعبيري مقصود لذاته.
ذلك أنّ الكاتب لم يعتمد على اللغة الحاكية التي لا تهتمّ بمجازها، قدر اهتمامها بنقل الموضوع، دون تنميق، بل هناك جانب من الحفر في العلاقة بين المشبه والمشبه به، وهي علاقة بعيدة بالنظر إلى طبيعة الاختيار، وإلى طبيعة العلاقات السببية غير المنطقية: وصف مفارق للمعيار.
وللتدليل على المسافة الفاصلة ما بين الكلمة والصورة، نسوق عينة أخرى:« وصرخ زوربا من أعماق أحشائه، وذابت كلّ القشرة الرقيقة التي نسميها حضارة، وفسحت الطريق للوحش الخالد، للإله المشعر، للغوريلا المرعبة. واختفى كل شيء، اللينيت والخسائر والأرباح…كنا نحمل، ونحن واقفان بلا حراك فوق أرض كريت المنعزلة هذه، كلّ مرارة الحياة وعذوبتها، بل إنّ المرارة والعذوبة لم تعودا موجودتين، ثم مالت الشمس …وصعد القمر وراح ينظر مذعورا إلى حيوانين صغيرين ينشدان فوق الرمال.» قد تنقل الصورة، بشكل متفاوت، هذه الصرخة العميقة التي صعدت من أعماق زوربا في ذلك الفراغ المهيب، أو تتجاوزها بالمؤثرات المختلفة من أجل تحيينها بصريا. كما يمكن أن تنقل بنجاح باهر وقوف الشخصيتين على أرض كريت، منهزمتين وحياديتين، أوميلان الشمس وصعود القمر، كمجموعة من الموصوفات المتناثرة التي بمقدور الكاميرا جمعها وتقديمها بسهولة. كما أنّ للصورة طرقا أخرى، ومنها اعتماد شكل اللقطة لتقوية المشهد وجعله أكثر حضورا وتأثيرا، أو أقلّ أهمية إن اقتضى الأمر ذلك. وبالمقابل فإنّ هناك وحدات نصية ظلت غائبة، رغم قيمتها الوصفية والفلسفية التي تجاوزت اللحظة ومظهر الصرخةفي آن. إذ إنها سعت، عن طريق السرد، إلى نقل المشهد إلى أبعاد أخرى أكثر مأسوية مما عكسه الفيلم، أو أكثر عبثية من الصرخة ذاتها التي ستنتقل إلى درجة أدنى، وأقل أهمية مقارنة بالجمل التي أعقبتها. إنّ التأويل اللاحق هو الذي يقيّم الشخصية ــــ الإنسان ويعيدها إلى حقيقتها، وفق منظور الكاتب، إلى هذه الأصول الحيوانية التي لا تتجلى في الفيلم بالشكل الذي يمكن أنيرغب فيه المؤلف. تعدّ الجملة التي تلت الصرخة: «ذابت كلّ القشرة الرقيقة التي نسميها الحضارة» عنصرا موجها ومفتاحا لفهم مقصدية كازانتزاكيس وطريقة تفكيره. إذ إنه بانتفاء القشرة الواهية للجانب الحضاري الذي يغلف الإنسان سيظهر على حقيقته: «وحش خالد، إله مشعر وغوريلا مرعبة»، وتلك خاصية من خصائص الكاتب، بداية من كتابه»تصوّف» الذي سيكون قاعدة لكل منجزه. كما أنّ استعمال: وصعد القمر وراح ينظر مذعورا إلى حيوانين، هو أنسنة للقمر ومسخ للشخصيتين اللتين تفقدان جانبيهما البشري. هناك موقف جمالي في الحالة الأولى، وموقف فلسفي في الثانية. أمّا إن ركزت الكاميرا عل القمر فلن تنقل نظرته، وقد لا تنتبه إلى الذعر الذي أكد عليه الكاتب. كما أنها ستقوم بتصوير شخصين واقفين على أرض جزيرة كريت، وليس حيوانين صغيرين. الشيء ذاته ينسحب على قوله:«… كنا نحمل كلّ مرارة الحياة وعذوبتها، بل إنّ المرارة والعذوبة لم تعودا موجودتين.» ستنقل الصورة حالة من الارتباك الدال علىاستواء الأحاسيس، أو على انمحاء الشخصيتين في الفضاء المحيط، لكنها ستجد حرجا في التعامل مع الوحدة الجملية الثانية، مع أنّها وظيفية، ومهمة للمتن، أو لهذا الإحساس بالتلاشي، لأنها ليست مجرد معاودة دلالية لا قيمة لها.
تكشف هذه الوحدات الأساسية، وبشكل منتظم، عن عمق الأفكار التي سوّقها الكاتب، وهي تضيء المقطوعات السردية والوصفية من جانبها الفلسفي، ومن حيث المجاز وطريقة نقل الشخصيات انطلاقا من رؤية ذاتية ذات علاقة بالموقف الشخصي منالوقائع التي ربطها بمرجعياته البلاغية. لذا سيكون تجاوزها شكلا من أشكال القفز على عناصر سردية مفتاحية.

القراءة من المصدر: https://www.eldjoumhouria.dz/art.php?Art=48739&fbclid=IwAR1q5gzzrjfNfujI66Qo_UvCuxhQMI90n2xldbe4YTmjJkuCOknQxTNAq70

Exit mobile version