عمار بلحسن: نموذج المثقف النقدي المستنير

خمس وعشرون سنة تنقضي على رحيل الكاتب والباحث عمّار بلحسن، الذي قدّم أعمالا إبداعية رائدة، وانجازات فكرية هامة في الحقل السوسيولوجي؛ فبقدر ما ساهمت في توضيح الرؤية وتحديد المسار فيما يخص واقع الثقافة والراهن الجزائري المأزوم، بقدر ما ابتعدت عن الأطروحات السياسية الفجّة، التي غيّمت المشهد الثقافي وجعلته مبتذلا إلى الحد الذي تهجّنت فيه الرؤية، فتقزم الإبداع وانسحبت مساحات الكتابة الفاعلة والجادة؛ وبين الإبداع والبحث تتبدى لنا مسيرة كاتب حرّ وباحث مجدّ  نذر نفسه للكتابة بوصفها أداة فاعلة للتغيير، الذي كان ينشده عمار بلحسن، ويضعه في اهتماماته الأولى كحافز ومؤشر للانطلاق.

 

حتى آخر أيامه كان عمار بلحسن نموذجا للمثقف النقدي، والمفكر المستنير الذي أخذ على عاتقه ضرورة الإسهام الفعلي في عملية التغيير، عن طريق الإصرار والاستمرار في الكتابة؛ بوصفها أداة معبرة عن طروحاته الفكرية، ونظراته الثاقبة للكثير من القضايا، التي اشتد حولها اللغط، لما يخص الراهن الثقافي الجزائري المأزوم،  مفككا بذلك آلياته، وواضعا بهذا الصدد، مشروعا أوليّا وتمهيديا، يتناول الوضع الجزائري المتدني، وضرورة تحويله مما هو فيه من انتكاس وتردّ، إلى واقع ملموس، يستجيب لآمال وتطلعات الأفراد والجماعات.

وقد حرص المرحوم عمار بلحس في مشروعه هذا، على ضرورة تشخيص الأزمة الجزائرية، وإمكانية توصيفها كنموذج لمحنة العالم العربي والإسلامي، في عضويتها وبنيتها وعلائقها؛ سياسة وسلطة واقتصادا ومجتمعا وثقافة وتديّنا، وأفرادا وجماعات منذ الاستقلال حتى الآن؛ بمقاربات تمتزج فيها العلوم الإنسانية مع الإبداع الفكري، والاجتهاد النقدي، والاستشراف المستقبلي من أجل “كشف الغمة في أزمة الأمة”، يستقلّ فيه الفكر والمفكر، ليؤسس سلطة ووعي المجتمع المدني وفعاليته، في مواجهته لطغيان وبيروقراطية المجتمع السياسي وعصبياته وصراعاته العنيفة.

عمار بلحسن

وقد خلص عمار بلحسن، في ختام مشروعه المقترح، إلى وضع قائمة اسمية لجل المثقفين الجزائريين، في الداخل والخارج على مختلف مشاربهم واعدد منابعهم الفكرية والإيديولوجية، للالتفاف حول الحد الأدنى من الفهم والتصوّر؛ حول مسائل حيوية ترتبط بالإنسان الجزائري، من حيث النشأة، الهوية، المعاش، التديّن… الخ؛ وذلك قصد الخروج من أنفاق الظلام، ودهاليز التعصب الأعمى، الذي وسم بطابعه الإنسان الجزائري في الصميم؛ هذا الذي أمكن لعمار بلحسن توصيفه أنه لا يتطوّر إلا بفعل المجابهات والمواجهات العنيفة، التي يقف خلفها إرث كولونيالي رهيب، أحاله إلى وعاء مكدس برواسب عنفية للتاريخ، والزمن والكينونة؛ مختزنا بذلك جدلية المقاومة والشهادة كصفتين لازمتاه طيلة الاستعمارات المتتالية على أرضه ووطنه.

ولئن حدث انفصال واتساع للهوّة بين الإنسان الجزائري والسلطة بفعل التخلخل القسري، الذي أحدثته بعد الاستقلال؛ فإنّ عمار لم يخف تفاؤله المشروع لتجاوز المحنة، وتخطي مسبباتها بإعادة تجسير الهوّة، وربط الحلقة المفقودة بين المواطن والسلطة، لإحداث المصالحة الكبرى ، إنهاء للأصوليات المقيتة بمختلف وجوهها، وتعدّد صنوفها، يقول عمار بلحسن، مؤكدا هذا المعنى : “ربما آنذاك، يمكننا أن نتكلم عن نهاية الأصوليات، الدينية واللغوية والتغريبية، وبداية تصالح الهوية التاريخية الدينية والثقافية مع الحداثة في مركب متلائم منسجم، يتجسد في مسار مفتوح مجتمعي وشعبي، يملك القبول والإجماع والمشروعية”.

Exit mobile version