يشق مدينتك شارعان رئيسان،أولهما لرحلتي الشمال والجنوب ، فمنه تمر كل القوافل وتستريح، فيه الراحة ولذة الطعام والشراب.وثانيهما شارع “الشيلي”ففيه تجتمع التجارة واللعب ،والشك واليقين والاستغفار.. !
أما بقية الشوارع كأودية كاذبة يملأها السراب أو ما فاض من أكياس فقدت محتواها إلا من رائحة البشر.
يسكنك أنت حب هذه المدينة المتناقضة في جدرانها وعبادها ،عاشقة غبارها العتيق في لحظة غضبه.
تشعر – أحيانا- أن سرها يختصر في ضحكة “مقداد”[1]،كأنّه عمدتها أو مالك خيوطها..سألته ذات مرة : ما يضحكك ؟
فأجابك بضحكة أخرى غير منتهية ،تخفي الكثير وراء ستارها ،تلفها جملته المختصرة :” إيه ..إيه ” .
لتطرح سؤالك :هل عجز “ابن جني”[2] أن يضع قواعد للغة الجنون حتى نفقه القصة وتفاصيلها ؟ !
يحيرك أمر هؤلاء، يجتمعون من غير موعد في الساحات رغم الأتربة المتصاعدة، يلعبون “الدامة” و “السيق”و “الزلبايحة” و”الورق”،على وجوههم علامات الرضا والتسامح وقد يعيب كبيرهم على الإمام لأنه أطال في قراءة الفاتحة في جمعة ساخنة !..ويستغرب صغيرهم من المكتبات المفتوحة وهي تلبس يأس الأيام ..فطاولاتها وكراسيها لا تتحرك إلا قليلا.
يمر صاحب ” الظل”[3] بجانبهم ،تتمنى لو يفقهوا قصصه التي أملتـــــها حركاتهم على عقله الباطن فكانت رجفة هدّأها برشفة من فنجان قهوة صبّت من مقهى”الأطلس”..تتلقاهُ بابتسامتك لتكون ليلته هادئة فينام في هدوء متوسدا ظله.. ! وتبحث أنت عن إجابة لسؤالك الثاني :هــل يستطيع “جابر بن حيان” أن يقيس المسافة الفاصلة بين رجال الثقافة وهؤلاء ؟ ! ..فلكل زاويته ومنفاه.. !
في زمن الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات تكون مدينتك المعشوقة تحت غيمة حبلى بالمفاجآت ،لا تدري كيف يكون مولودها ..وقد علمتك السنون في كل مرة أن مواليدها مختلفون ، لكل لونه وحالته وصبره وموقفه من الأمور والأشياء..تتساوى فيها لحظة الجوع والتخمة أحيانا.. !
ولكن عندما يتجه أهلها إلى مقبرة “سي البشير”- وقد تركوا مسجد “زيد” خلفهم -.. ينتابك شعور بأنهم ولدوا في اللحظة الواحدة وبالصرخة ذاتها والألم ذاته.
يحملون ميتَهم متجهين نحو غروب الشمس، ربما لإعلان نهاية الأشياء الجميلة ،لا يعرفون للدم عنوانا إلا عنوان الرحيل ..
– عظم الله أجرك ،كلنا راحلون،لا يبقى إلا وجه الجبار..هكذاحديث النهاية.
المدينة – الآن -تنام بجانبها الغربي المختلف ..لا أحد يفقه حكايته إلا من كان أبناؤها خلفه ..ووجهته إلى العالم الآخر.
——–
1 أحد سكان المدينة ، فاقد لعقله
2 فقيه في لغة العرب
3في إشارة للقاص والناقد: السعيد موفقي..ومجموعته القصصية : كمثل ظله..
*(الزلبايحة، الدامة…) لعب شعبية..