انطلقت حافلة من أقصى الجنوب مرورا بالقرية الصغيرة متجهة نحو إحدى المدن الكبيرة.
أخذ شيخ كبير كان جالسا على المقعد الخلفي يبكي بكاء شديدا حتى همّ جميع ركابها بالنزول في المحطة القادمة،أو في أقرب مكان، ولم يعرف أحد سبب بكائه.
صاح شاب :
– أنزلوه ..أنزلوه..يا جماعة الخير..
صاح هو أيضا :لا ..لا أريد النزول ..أرجوكم..
واستمر في البكاء ، مناديا بأعلى صوته :
إرحموني ..أرجوكم ،أنا ليست لي فكرة عن طريق الجبل ..ولا عن الوادي المالح ولاعن شجرة البلوط الضخمة..ليست لي أية فكرة ..والله.. !
أثار استغراب الجميع حتى الصغير الذي كان جالسا بقربه.
في المحطة التالية ،نزل بعض الشباب ، تمنوا أن لا تتكرر رحلتهم القصيرة هذه،وتمنى ما بقي منهم لو كان الشيخ من النازلين .
السائق :
– لو تتكرر هذه الحالة معي سأقدم استقالتي وإن أعطاني صاحب الحافلة مال قارون .. هذه كارثة..يا لطيف..يا ستار.. !
في لحظة الاستغراب وضيق الأفق،صعد رجل قصير القامة ،مبتور اليد اليمنى ،على وجهه السرور والانتشاء بالنصر كأنه أنهى معركته مع العدو للتو ..
– أهلا بك يا رفيق الكفاح ، أمازلت تخاف الصعقات الكهربائية يا بطل،لا تخف نحن لم نعد من نزلاء سجن “جهنم” ,وهذه الحافلة ليست للمحتل ،أنت بين أهلك الآن وهؤلاء أبناء جيل الاستقلال ، ينعمون بالحرية بفضل ما قدمت من صبر وتضحيات .
التفت نحو الركاب ،و أخبرهم أن ما قام الشيخ من تصرفات غريبة نتيجة لحالة نفسية تركتها ظلمة سجن المحتل وعذاباته التي لم تبرح جسمه ..
أوقفت الحافلة ،والتف الشباب حوله مقبلين رأسه وجبهته ،وأخذوا معه صورا تذكارية .
ذيع الخبر في الجرائد والقنوات التلفزية وطبعت رواية “ذاكرة الرحلة المنسية”على عجل.. !
—
من مجموعتي القصصية ” قبيل الفجر بقليل”، الجاحظيةللنشر والتوزيع، عنابة -الجزائر