لا أدري حقيقةً كيف بدأ معي الأمر ، كُنت صغيراً حينما وجدتُني أفعل أمور العجائز تلك، على أي حال كُنت مُعتاداً على الكتابة لنفسي أو عن نفسي، و حينما كُنت أود قراءة تلك الكتابة بصوتٍ عالٍ كُنت أتخيل أمامي جمهوراً و أحدهم أنظر إليه مُخطاباً، لا أُنكر ربما تكون فتاة من الماضي، و لكن حينما كُنت عن تلك الأحداث، الأحداث العظيمة في حياتي ، الثورة و ما يماثلها، طال ما يأتي في بالي هؤلاء العظام، من أسميهم كما أسميت هذا الملف في حاسوبي الشخصي ” جلسائي ” .
وجه كبير منتفخ ذو شافتان نافرتان و أسنان بيضاء متباعدة علامة على عدم التدخين أو عدم أعتياده، جبين مفتوح و شعر ناعم مفروق من المنتصف مجدول إلى الخلف و أنف كبير و عينين جاحظتين يعلوهما حاجبان لم يعرفا التخطيط، في عام 1918 كانت تخطو تلك الملامح قدم حملت صاحبتها تسعة و أربعين سنة ، كانت تلك جليستي ناديجيدا كروبسكايا زوجة فلاديمير لينين قائد الثورة البيلشيفية .
حينما تأتي صورة كروبسكايا في بالي، تأتي في إطار السيدة الأولى في الأغلب، بالرغم من قراءة عادات السيدات اللواتي تبعنها في الكرملين، و اللواتي يماثلنها في قصور أخرى – لسمح الله الأتحادية أو الحكم – بدون أقتراح مقارنة بعينها بين كروبسكايا و أي زوجة من زوجات حكام الشرق و الغرب، يمكنني القول أنها الصورة الأمثل على الأطلاق و الحلم الأمثل لي.
كانت قد ولدت بدون أي ملامح توضح أنها جميلة على الأطلاق، و ربما لم يتزوجها لينين لأنها تملك تلك الصفات التي نبحث عنها نحنُ الرجال، أعلم بصفتي رجل ما نوده، و لا أعتقد أنه قد يكون رجلاً من لم يأمل لنفسه فخذاً و ثدياً ما، ولدت بأسم ناديجدا قسطنطينوفنا كروبسكايا في عام 1869 ، وحيدة ليليزافيتا و قسطنطين كروبسكي و محبوبتهم، في شوارع فقيرة بين العرايا و الفقراء في احياء العاصمة سانت بطرسبرج .
والداها كانا ذوي طموح أن تلتقي أبنتهما تعليماً راقياً، ألتحقت بمدرسة الأميرة أبولينسكايا التي كانت ذات سمعة طيبة في ذاك الزمان، كانت مدرسة لم تقم علي أسس تجاري مثل مثيلتها كالمدارس الخاصة حيثُ كانت تلك المدرسة مقامة على حماس جماعات الشعبويين الذين كانوا يدعون إلى إسقاط القيصرية في ذاك الزمان استناداً على الفلاحين، تعلم هناك العديد من الفتيات من أوساط أرستقراطية، و بعض الطبقة الوسطى ممثلي المثقفين، و كرس العديد من التلميذات في تلك المدرسة حياتهن فيما بعد لخدمة المجتمع خاصة المرأة الروسية التي كانت تنتظر العلوم ، و تنتظر الخروج من أطار المنزل و العالم المحدود و الخروج إلى المجتمع لكي تكون من ضمن القوى العاملة .
ظهر فيما مضى شخصيات مثل فيرا زاسوليتش التي قادت في فترة ما بين 1849 حتى 1919 محموعة من الحلقات الثورية و اطلقت النار على عمدة بطرسبرج المُسمى تربيتوف و اختبرت في السجون و المنافي و كانت من أعوان لينين ، كانت مثل تلك السيدة هم من يدركون احتياج المرأة الروسية خاصةً و المجتمع الروسي عامةً نشاطها و مساهمتها من أجل التغير، أمثال فيرا فينجير ( 1852-1942) ، صوفيا بيروفسكايا ( 1853-1881) و التي حاولت اغتيال القيصر الكسندر الثاني و اصبحت اول أمراة يتم اعدامها في روسيا بسبب قضية سياسية ، كانوا هؤلاء يسمون الجيل الأول او الرعيل الأول .
في عام 1887 كانت كروبسكايا قد انهت صفها الثامن ، جاهزة للعمل كمعلمة ، و كانت تقوم بتلك المهنة في ذات المدرسة التي التقيت تعليمها منها ، و كانت في تلك الفترة اكتسبت روتيناً في حياتها نتيجة تفرغها الدائم للتدريس او القراءة ، لغياب الخُطاب عن حياتها و عدم تهديد حياتها بالزواج مثل عادة تلك الايام، كما صرحت لوالدتها انها لا تهتم ان تكرس حياتها لرجل واحد بل لمجتمع كامل ، و هذا القول سيظهر حقاً في المستقبل الذي سحكي بعضه هذا المقال.
في أحد الايام ستقرأ في الجرائد نداء و دعوة ليف تولستوي الموجهة للفتيات المتعلمات نحو مراجعة و تبسيط الكتب المعروفة لكي يتمكن البسطاء من الناس قراءتها بسهولة و التعلم من خلالها ، في البداية كان يبدو هذا العمل جيداً بالنسبة له ، لكن سرعان ما ظهر انه عمل سخيف، كان عليها ان تجالس دوائر المعجبين بتولستوي و انتظار رد تولستوي شخصياً حول تبسطيها للكتب ، لم يكن من خصالها ان تترك عمل قد بداته ، لذلك كانت مرغمة في استكماله حتى عام 1890.
في ربيع ذاك العام ، قرأت رأس المال لماركس ، قالت انه لا يجب البحث عن المجتمع الافضل في عمليات الارهاب الفردية ولا في دعوة تولستوي في تطوير الذات و لكن في الحركة العمالية الجبارة ، كان نتيجة ذلك ان في خريف ذاك العام تركت دورة بيستوجيف التعليمية النسائية لكي تبحث عن طريق اخر في اطار التربية و التعليم و الرقي بالمجتمع النسوي بالاخص و المجتمع العام .
كان اول الطريق التردد على حلقة كانت باسم ” كلاسون ” تجلس في مكتبة عامة طويلاً تستخدم بطاقة خاصة بتلك الحلقة لكي تستعير الكتب ، و عثرت علي اول خطوات الطريق عبر تنوير الطابقة العاملة من خلال التدريس في مدرسة ليلية للعمال ، و هناك كشفت على اول مواهبها التعليمية و التمثيلية ، حيث كانت قادرة علي التنوير و الدعاية إلى أفكارها.
في نهاية عام 1894 بلغت عامها الخامس و العشرين ، منخرطة في اعمال ماركس ، في دربها نحو تنوير الطبقة العاملة ، مبتعدة عن مسألة الزواج فيما يبدو في اهمالها لمظهرها العام ، كان في ذاك الوقت في احد ليالي الاعياد من ديسمبر ، كانت ناديجدا قد قررت الا تضيع وقتها في حلقة كلاسون بعد ان تخطتها ، حيث كان هناك نقاشاً دعاها إليه كلاسون شخصياً و ما ارغمها على الحضور قوله ” سيكون الامر ممتعاً حيث سيحضر هنا احد رجال الفولجا ” .
في زيارتها للحفلة و المناظرة المقامة كان الضيف المنتظر هو شخص قد سمعت عنه مراراً و اهتمت بلقائه و الحديث معه ، ذهبت ما احد اصدقائها و كان هو ” فلاديمير أوليانوف ” ، ذو عمر اربعة و عشرين سنة ، و مظهر اكبر سناً .
فيما بعد كان لقائهما صدفة لمرات خارج المكتبة ، و طالت النقاشات فيما بينهما ، و اصبح يردد احياناً ” ان الثورة ممكنة و قريبة ” ، و اصبح ذاك المساء من ديسمبر يحدد الكثير من مصيرها ، كان ذاك هو حبها المصيري ، و الرجل الذي سبب الثورة التي كانت طموحها ، و الرجل الذي ظلت تضحي من اجله ليس كرفيقها الأبدي و لكن كزعيم و أيقونة ، حيث أن فلاديمير أوليانوف هو الأسم الأصلي للزعيم فلاديمير لينين، و الذي حينما كتب لها طلبه بالزواج قالت له ” طيب ، فليكن زوجة ” .
كان زواجاً في المنفى ، في قرية شوشينسكويه ، مرغمين من السلطة في ذاك السقيع ان يتزوجا في الطقول الدينية المتبعة ، و ربما هو أمر أدخل السرور على الأم التي رأيت أنه زواج سعيد ما دام القس بين الشابين الذين مهما كان معتقدهما سيباركهما .
حينما دخلت الكرملين ، كان الصراع على الحكم واضحاً و لكن اثبتت بجدارة انها لم تكن مجرد صورة لممثل نسوي في ذاك القصر ، حيث انها اول ما قدمته في حياتها كسيدة أولى هو اهتمامها بقضية التعليم ، تم إلغاء الدين كمادة أجبارية في المدارس ، و لكن لم تكن ملاكاً كما يصور المقال حتى اللحظة ، حيث أنها أول من حجب أنتاج الأدب و طباعة و نشر العديد من الكتب لأمثال ميخائيل بولجاكوف ، أندريه بلاتونوف ، و بعض الأعمال مثل الشياطين لدوستويفسكي.
في نوفمبر عام 1923 كتب جوركي لصديق في الخارج تلك الشهادة رغم العلاقة الطيبة بينه و بين لينين ” من الأنبياء التي تصيب العقل بالذهول أن كروبسكايا منعت في روسيا قراءة أفلاطون و كنط و شوبنهاور و الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف و جون ريسكين و نيتشه و ليف تولستوي و نيكولاي ليسكوف ” .
ربما ها هنا تنتهي قصة كروبسكايا المنفردة ، حيث ان البقية تتعلق من خوفها نحو مرض لينين ، و صراع الحزب عن ضرورة تسليم لينين السلطة ، و عامه الاخير الذي عاشه بعد نوبة مرضه الأولى ، مات لينين و ادركت كروبسكايا ان اليد الحديدية التي أعلن بها لينين الدولة ستأتي غيرها ، و عاشت معه فترته الأخيرة ، و عاشت من بعده 15 عاماً ، كانت تكتب في تلك الاعوام المقالات و توزع الارشادات ، تعلم الناس كيف يجب عليهم ان يعيشوا .
في العهد الستاليني ، كانت تكتب مذكراتها التي حاول ستالين شخصياً منعها ، و كان ستالين نفسه يمارس الضغط عليها في نشر مقالاتها و ارائها للعامة ، و لكنها لم تكن تقوى على مواجهته كما مضى و لم يكن ستالين قوياً لايقافها ، و في عيد مولدها السبعين أرسل لها ” تورتة ” ، كانت بالرغم من وجودها بين اصدقائها و تناولهم جميعاً لها ، إلا انها الوحيدة المتوفية في اليوم التالي بالمشفى ، حيث تبنى الجميع نظرية ان ستالين قد قتلها ، و لكن في الحقيقة هناك صورة تقول أن ستالين كان يحمل الأناء الذي كان يحمل رمادها.
تلك هي جليستي الأولى ، تأتي دائماً حينما يقول التلفاز ” السيد الرئيس و السيدة الأولى ” .