مقدم من الباحث: أحمد سالم عوض حسان.
إشراف: أ. د. محي الدين محسب أستاذ العلوم اللغوية والعميد الأسبق لكلية دار العلوم جامعة المنيا.
التداولية اصطلاح مدعاة دائماً للالتباس، فهو في الوقت نفسه مستعمل للإحالة على مجال لساني ورؤية خاصة للغة…[1]. ويلاحظ حجم إشكالية المصطلح اللساني ومدى العشوائية التي تعيشها حركة الترجمة بتناول مصطلح التداولية عند جورج يول مثلاً: فنرى د. قصي العتابي (2010) يذهب في ترجمته لكتاب “pragmatics” لجورج يول يستخدم مصطلح التداولية، أما محمود فراج حافظ (1999) فعند ترجمته لكتاب ” معرفة اللغة ” لجورج يول أيضاً فيستخدم مصطلح (البراجماتية) مقابلاً لمصطلح “pragmatics” وهذا على مستوى المؤلف نفسه والمصطلح نفسه.
يقول الباحث المغربي طه عبد الرحمن رائد التداولية عند العرب: “إني وضعت هذا المصطلح – يعني التداولية – منذ سنة (1970)، في مقابل (pragmatique) ولو أن التداوليين الغربيين علموا بوجود هذه اللفظة في العربية لفضلوها على لفظة (pragmatique)، لسبب واحد، وهو أنها لا توفي بالمقصود من علم التداول، فلفظة التداول تفيد في العلم الحديث الممارسة… وتفيد أيضا التفاعل في التخاطب… ثم بالإضافة إلى ذلك أنها من مادة واحدة ولفظة الدلالة نفسها، يعني أن التداول سوف يرتبط بالدلالة, فإذن هذا هو التبرير العلمي الأولي لمصطلح التداول”[2] وقد تابعه الباحثون في المشرق والمغرب في استعمال هذا الاصطلاح، ومن هؤلاء الباحثين: أحمد المتوكل (1985)[3]، وإدريس مقبول( 2004) [4]، وعبد الهادي بن ظافر الشهري(2004)[5]، ومسعود صحراوي(2005)[6]، ومحمود أحمد نحلة (2006)[7]، ونعمان بوقرة (2009)[8]، ومؤيد آل صوينت (2010)[9].
وعلى صعيد الأعمال المترجمة وردت التداولية مصطلحا مقابلا للمصطلح الأجنبي عند كل من: سعيد علوش (1986)[10]، وعبد القادر قنيني(2000)[11]، وسيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني (2003)[12]، ومنذر عيّاشي(2007)[13]، وصابر الحباشة(2007)[14]، عبد القادر المهيري، حمّادي صمّود (2008 )[15] ود. خالد سهر (2009)[16]، وقصي العتّابي(2010)[17] عز الدين المجدوب (2010) [18].
وإلى جانب ترجمة المصطلح الأجنبي(pragmatics) بالتداولية، ترجمه محمد علي الخولي(1982)[19] في معجمه اللغوي بـ(علم الرموز) وجعله مرادفا للسيميائيات، ويعالج الرموز اللغوية وغير اللغوية. وفي عام(1986)[20] أطلق عبد القادر الفهري في معجم المصطلحات على التداولية مصطلح (الذريعيات). وترجمه كل من ميجان الرويلي وسعيد البازعي (1995) بـ(الذرائعية الجديدة)[21]. وترجمه كل من محمود فراج(1998)[22]، وسعيد بحيري(2003)[23]، وقاسم المقداد (1998 )[24]، ومحمد يونس (2006) بـ (علم التخاطب )[25]، ومسعود صحراوي (2005)[26] بـ (علم الاستمعال اللغوي )[27]، ومحمود عكاشة (2013 )[28] بـ(البراجماتية).
ولا تمكن إشكالية المصطلح في لفظة التداولية بل تعدتها إلى أبعادها فبُعد الأفعال الكلامية فعلى سبيل المثال نجد أن بعد (الأفعال الكلامية) ترجمه كل من سيف الدين دغفوس ود. محمد الشيباني (2003)، صابر الحباشة (2007 )[29]، معاذ الدخيل (2014 )[30] بـ (الأعمال اللغوية) ومحمود نحلة (2002)[31] مسعود صحراوي (2005)[32] بـ الأفعال الكلامية) وعبد الهادي بن ظافر الشهري بـ (الأفعال اللغوية) [33]
أما بُعد (الإشاريات) فترجمه محمود نحلة (2002) بـ (الإشارة) [34] وقصي العتابي بـ (التأشير) (2010 )[35] ونرجس باديس (2009)[36] ومنى الجابري(2013)[37] بـ (المشيرات).
أما التداولية من حيث المفهوم والتصور:
لقد عني الباحثون بدراسة اللغة وفقًا لاتجاهين رئيسيين: الاتجاه الشكلي، الذي قعد العرب من خلاله لعلمي النحو والصرف، وتمّثل عند الغربيين في اللسانيات الصارمة، التي تعنى بدراسة النظام اللغوي، معزولاً عن سياق التواصل الاجتماعي.
وهناك اتجاه آخر، وهو الاتجاه التواصلي الذي يدرس اللغة من خلال المنجز اللفظي في سياق معين، وقد تمثَّل هذا الاتجاه في مناهج كثيرة منها: تحليل الخطاب، اللسانيات الاجتماعية واللسانيات التداولية.
وتعد اللسانيات التداولية من أحدث الاتجاهات اللغوية التي ظهرت وازدهرت على ساحة الدرس اللساني الحديث والمعاصر، إذ بعدما كانت اللسانيات تقصر أبحاثها على الجانبين البنيوي والتوليدي؛ فتهتم بدراسة مستويات اللغة وإجراءاتها الداخلية (جانب بنيوي)، وكذا وصف وتفسير النظام اللغوي ودراسة الملكة اللسانية المتحكمة فيه (جانب توليدي)، وفي إطار ما يُصطلح عليه بـ “لسانيات الوضع”، جاءت اللسانيات التداولية لتعالج في مقابل ذلك ما يسمى بـ “لسانيات الاستعمال” ولعل هذا ما جعلها أكثر دقة وضبطا، حيث تدرس اللغة أثناء استعمالها في المقامات المختلفة، وبحسب أغراض المتكلمين وأحوال المخاطبين.[38]
فالتداولية درس عزيز جديد إلا إنه لا يمتلك حدودا واضحة… تقع التداولية أكثر الدروس حيوية في مفترق طرق البحث الفلسفية واللسانية [39] تنوعت وجهات النظر بين الدارسين سواء عند مؤسسيها ومريديها في الغرب، أو عند دارسيها والباحثين فيها من العرب. ولعل السبب في ذلك يعود إلى تنوع مجالات اهتمام الباحثين أنفسهم.[40]
وإن أقدم تعريف للسانيات التداولية هو تعريف (تشارلز موريس 1938م): إن التداولية جزء من السيميائية التي تعالج العلاقة بين العلامات ومستعملي هذه العلامات.
وهذا التعريف واسع يتعدى المجال اللساني إلى السيميائي والمجال الإنساني إلى الحيواني والآلي.[41]
وقد اقترح رودولف كارناب بعد سنة من ذلك التاريخ أن يدعو علم التخاطب – التداولية – بأنه (حقل البحوث التي تأخذ في اعتبارها نشاط الإنسان الذي يتكلم أو يسمع العلامة اللغوية وحالته ومحيطه)[42]
ومن تلك التعريفات الواسعة تعريف فرانسواز أرمينكو حيث ترى أن (التداولية تتطرق للغة كظاهرة خطابية وتواصلية واجتماعية معا)[43]
وكذا صلاح فضل حيث عرفها بأنها “الفرع العلمي من مجموعة العلوم اللغوية التي تختص بتحليل عمليات الكلام بصفة خاصة، ووظائف الأقوال اللغوية وخصائصها خلال إجراءات التواصل، بشكل عام”[44].
وقد يقتصر الباحث على دراسة المعنى وليس المعنى بمفهومه الدلالي البحت، بل المعنى في سياقه التواصلي مما يسوغ معه تسمية المعنى بالمتكلم فيعرفها (بأنها دراسة المعنى التواصلي أو معنى المُرسِل في كيفية قدرته على إفهام المُرسَل إليه بدرجة تتجاوز معنى ما قاله)[45]
أما آن ماري ديلر وفرانسوا ريكاناتي فيعرّفان التداولية بأنها “دراسة استعمال اللغة في الخطاب، شاهدة في ذلك على مقدرتها الخطابية”[46]
ومسعود صحراوي عرفها بأنها: (هي إیجاد القوانین الكلیة للاستعمال اللغوي والتعرف على القدرات الإنسانیة للتواصل اللغوي)[47]
كما قد تعرّف من وجهة نظر المتكلم بأنها:” كيفية إدراك المعايير والمبادئ التي توجه المرسل عند إنتاج الخطاب، بما في ذلك استعمال مختلف الجوانب اللغوية، في ضوء عناصر السياق، بما يكفل ضمان التوفيق من لدن المرسل إليه عند تأويل قصده، وتحقيق هدفه”[48]
ومن الباحثين من نظر إليها من جهة السياق كـ فرومكين حيث حدّها بكونها: الدراسة العامة لكيفية تأثير السياق في الطريقة التي نفسر بها الجمل، ويقصد بالسياق في مثل هذه المواضع مفهومه الواسع الذي يشمل – علاوة على ملابسات الموقف – كل ما له تأثير في الحدث اللغوي من عوامل حالية أو ماضوية.كما عُرف أيضا بأنه دراسة استخدام اللغة، علاقته ببنية اللغة والسياق الاجتماعي [49].
وقد تعرّف انطلاقا من اهتمام الباحث “بتحديد مراجع الألفاظ وأثرها في الخطاب، ومنها الإشاريات، بما في ذلك طرفي الخطاب، وبيان دورهما في تكوين الخطاب، ومعناه، وقوته الإنجازية”[50].
وهناك من الباحثين من ينطلق في تحديد مفهوم التداولية من عدة جهات كـجورج يول الذي يرى أن التداولية تختص بدارسة المعنى من جهة المتكلم والسامع والسياق والعوامل المادية والاجتماعية:
فمن جهة المتكلم تهتم “بدارسة المعنى كما يوصله المتكلم (أو الكاتب) ويفسره المستمع (أو القارئ) لذا فإنها مرتبطة بتحليل ما يعنيه الناس بألفاظهم أكثر من ارتباطها بما يمكن أن تعنيه كلمات أو عبارات هذه الألفاظ منفصلة. التداولية دراسة المعنى الذي يقصده المتكلم.
ومن جهة السامع تدرس “الكيفية التي يصوغ من خلالها المستمعون استدلالات حول ما يقال للوصول إلى تفسير المعنى الذي يقصده المتكلم… التداولية هي دراسة كيفية ايصال أكثر مما يقال”
ومن جهة السياق تتضمن ” تفسير ما يعنيه الناس في سياق معين وكيفية تأثير السياق فيما يقال… والتمعن في الآلية التي ينظم من خلالها المتكلمون ما يريدون قوله وفقا لهوية الذي يتكلمون إليه وأين ومتى وتحت أي ظروف. التداولية هي دراسة المعنى السياقي”
ومن جهة العوامل المادية والاجتماعية ” ينطوي القرب المادي أو الاجتماعي أو المفاهيمي على خبرة مشتركة حيث يحدد المتكلمون مقدار ما يحتاجون قوله بناء على افتراض قرب المستمع أو بعده. التداولية هي دارسة التعبير عن التباعد النسبي” هذه هي المجالات الأربعة التي تهتم التداولية بدارستها[51].
وبار هيلل عرف التداولية بأنها ” دراسة الارتباط الضروري لعملية التواصل في اللغة الطبيعية بالمتكلم والسامع بالمقام اللغوي والمقام غير اللغوي ” ووافقه جورج يول على هذا التعريف وأضاف إليه ارتباط التداولية ” بوجود معرفة أساسية، وبسرعة استحضار تلك المعرفة الأساسية وبحسن إدارة المساهمين في عملية التواصل “[52]
وهناك من الباحثين من نظر التداولية إلى كونها مستوى جديد من مستويات اللغة متنوع المعطيات فيرى أنها ” مستوى حاسم على صعيد تحديد الدلالة وفهم تحولاتها وتغيراتها…حيث تتوجه فيه الدراسات اللسانية إلى العناية بأثر التفاعل الخطابي في موقف الخطاب، ويستطيع هذا التفاعل دراسة كل المعطيات اللغوية والخطابية المتعلقة بالتلفظ، لاسيما المضامين والمدلولات التي يولدها الاستعمال في السياق “[53].
وتشمل هذه المعطيات معتقدات المتكلم، ومقاصده، وشخصيته، وتكوينه الثقافي، ومن يشارك في الحدث اللغوي، والوقائع الخارجية، ومن بينها الظروف المكانية والزمانية، والظواهر الاجتماعية المرتبطة باللغة، فضلا عن المعرفة المشتركة بين المتخاطبين، وأثر النص الكلامي فيها[54].
وقد أطلق عليها مصطلح “المجال التداولي” ويوضحه كذلك بقوله ” وقصدنا به: كل المقتضيات العقدية والمعرفية واللغوية- القريب منها والبعيد – المشتركة بين المتكلم والمخاطب والمقومة لاستعمال المتكلم لقول من الأقوال بوجه من الوجوه”[55]
ومن الملاحظ التنوع في التعريفات التداولية ولعل ذلك يرجع إلى أمرين مهمين:
– تداخل التداولية مع كثير من العلوم؛ إذ أن جملة من العلوم قد أسهمت في تشكل هذا الاتجاه، فهو اتجاه قد تعددت روافده المعرفية التي أمدته بجملة من المفاهيم المستقرة فيها، كالفلسفة التحليلية التي نشأت التداولية في كنفها وعلم الدلالة وعلم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي وغيرها.
– تنوع النظريات التي تشكلت داخل الاتجاه التداولي، مما جعل الباحث داخل إحدي هذه النظريات يوجه التداولية نحو النظرية التي ينطلق منها[56]
وقد ذكر محمود نحلة أهم ما تتميز به التداولية عن غيرها من اتجاهات البحث اللغوي بما يأتي:
1- التداولية تقوم على دراسة الاستعمال اللغوي أو هي لسانيات الاستعمال اللغوي. وموضوع البحث فيها هو توظيف المعنى اللغوي في الاستعمال الفعلي من حيث هو صيغة مركبة من السلوك الذي يولد المعني.
2- ليس للتداولية وحدات تحليل خاصة بها ولا موضوعات مترابطة.
3- التداولية تدرس اللغة من وجهة وظيفية عامة: معرفية واجتماعية، ثقافية.
4- تعد التداولية نقطة التقاء مجالات العلوم ذات الصلة وبينها وبين لسانيات التروة اللغوية.[57]
تصور لماهية التداولية:
اللسانيات التداولية اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير، وهي ليست سوى تطبيق لمبدأ المعبَّر عنه في الكتاب المقدس « تعرفها بثمارها »[58] هذا العلم الذي أخذ ينمو في العقود الخمسة الأخيرة فحسب ذو طبيعة (غير تخصصية) تغذيه جملة من العلوم من أهمها الفلسفة وعلم اللغة والأنثروبولوجيا وعلم النفس والاجتماع[59] وبهذا فليس للدرس التداولي مصدر واحد انبثق منه، ولكن تنوعت مصادر استمداده.
سبقت التداولية عدة نظريات لغوية اهتمت بالنظام الشكلي للغة من البنيوية والتوزيعية والتوليدية التحويلية وغيرها من المدارس التي ركزت على بنية النظام اللغوي مما ألجأهم إلى الدفع ” بكل ملاحظاتهم حول الاستعمال اليوم للغة نحو حافة الطاولة، وعندما اكتظت الطاولة وامتلأت، أخذ الكثير من هذه الملاحظات حول الاستعمال المعهود للغة بالانحسار لينتهي به الأمر إلى سلة المهملات”[60]
والملاحظ من محتوى تلك السلة المكتظة أن ما بها من ملاحظات وقضايا وإشكاليات عجزت المناهج الشكلية عن حلها أنها ترتبط بوشيجة واحدة وهي رابطة دراسة اللغة في الاستعمال، وهو ما عرف عند أوستن بالتداولية، وقد أثارت فرانسواز أرمينكو حول وضعية وانسجام التداولية عدة تساؤلات تطرحها كالتالي:
– التنافر أو التوحّد: فهل تعد التداولية مجالا متنافرا، أو غرفة مهملات نُودِع فيها المشاكل التي لم يكن في مكنتها
– المعالجة في النحو والدلالة، وخاصة المشاكل ذات الاستعمال اللساني؟
– وهل في إمكاننا إدراك تداولية موحدة بحكم هذه الإنجازات؟
– الاندماج أو الاستقلال؟ ويمكن للتداولية الاندماج من خلال طريقتين:
أ- إما اختزالها إلى دلالة، ومن هنا نجدها عند (كارتز1972م) تداولية تمتزج تماما وببساطة، بنظرية الإنجاز التداولية.
ب- وإما مدمجة كجزء من السيميائية الثلاثية الأبعاد.
ويذهب مسعود صحراوي إلى أن التداولية ليست علما لغويا محضا، وإنما “علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغو ية في مجال الاستعمال، ويدمج من ثم مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة التواصل اللغوي وتفسيره”[61] فهي إذن الفرع العلمي من مجموعة العلوم اللغوية الذي يختص بتحليل عمليات الكلام بصفة خاصة، ووظائف الأقوال اللغوية، وخصائصها خلال إجراءات التواصل بشكل عام[62]. وبهذا فالتداولية ” مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه وطرق وكيفية استخدام العلامات اللغوية بنجاح.”[63]
اختلفت نظرة الباحثين حول ماهية التداولية، كما اختلفت عند المدارس اللسانية حيث تذهب المدرسة الأنجلو أمريكية إلى تعريف على أنها ” الدراسة المنهجية للمعنى اعتمادا على الاستعمال. ومواضيع البحث تشمل الاستلزام الحواري والافتراض المسبق والأفعال الكلامية والإشاريات… وإن التداولية يجب أن تعالج كقسيم أساسي ومكافئ لعلم الأصوات، والفونولوجيا، والصرف والتركيب والدلالة. وعليه فمواضيع كاللسانيات الأنثروبولوجية واللسانيات التطبيقية واللسانيات النفسية سوف لن تكون من صميم هذه المكونات وبالتالي تخرج عن إطار التداولية، أما المدرسة الأوربية، فالتداولية أوسع حيث تشمل معظم المواضيع التي تنضوي تحت اللسانيات الاجتماعية واللسانيات النفسية وتحليل الخطاب.”[64]
وبما أن الدرس التداولي ما زال في طور النشوء والتكوّن فاختلاف الباحثين في تعيين ماهية التداولية أمر بدهي، حيث نجد من ينتهج مذهب المدرسة الأوربية ولا يعتبر التداولية مستوى من مستويات الدرس اللساني كدكتور محمود نحلة حيث يرى أن التداولية لا تنتمي ” إلى أي من مستويات الدرس اللغوي صوتيا كان أم صرفيا أم نحويا أم دلاليا لذلك فالأخطاء التداولية لا علاقة لها بالخروج على القواعد الفونولوجية أو النحوية أو الدلالية، وهي ليست مستوى يضاف إلى هذه المستويات؛ لأن كلا منها يختص بجانب محدد ومتماسك من جوانب اللغة وله أنماطه التجريدية ووحداته التحليلية، ولا كذلك التداولية، فهي لا تقتصر على دراسة جانب محدد من جوانب اللغة، بل من الممكن أن تستوعبها جميعا، وليس له أنماط تجريدية ولا وحدات تحليلية”[65]
وعلى الرغم من ذكر محمود نحلة لاحقا شدة اتساع مجالات البحث في التداولية ” فقد أخذت تظهر لها فروع يتميز كل منها عن الآخر، فهناك التداولية الاجتماعية… والتداولية اللغوية والتداولية التطبيقية… ثم التداولية العامة ” إلا إنه يذكر أن جلّ الباحثين ” يتفقون على أن البحث التداولي يقوم على دارسة أربعة جوانب: الإشارة، الافتراض المسبق، الاستلزام الحواري، الأفعال الكلامية”[66] ثم يفصل الحديث عن تلك الجوانب في تتمة الفصل الأول في كتاب ” آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر” في الصفحات (16-118).
فكان التنظير بكون التداولية مجال شديد الاتساع غير مؤطر بمستوى لغوي تشمل مباحثه معظم المواضيع التي تنضوي تحت اللسانيات الاجتماعية واللسانيات النفسية وتحليل الخطاب من: الحجاج والتطبيق في مجال التعليم والتكنولوجيا والإعلام وغيرها من التطبيقات إلا أننا نراه في التطبيق يذكر إجماعا لجمهور الباحثين على أن البحث التداولي يقوم على الدراسة المنهجية للمعنى اعتمادا على الاستعمال. ومواضيع البحث تشمل الاستلزام الحواري والافتراض المسبق والأفعال الكلامية والإشاريات استنادا لنظرة المدرسة الأنجلو أمريكية.
وهذا جورج يول يرى أن “التداولية مستساغة؛ لأنها تتعلق بالكيفية التي يتمكن من خلالها الناس فهم أحدهم الآخر لغويًّا، ولكنها قد تقلب لتكون ميدانا دراسيًّا محبطًا؛ لأنها تتطلب فهم الناس وما في عقولهم”[67]
فالملاحظ لدى جورج يول أنه يسم التداولية بالدرس اللغوي المحبط نظرا لشدة اتساعه، حيث تتطلب فهم أساليب الناس وطرق تفكيرهم وإذا تميز هذا الأمر بشدة الاتساع إلا أنه ليس من المستحيلات، حيث يمكن أن نسعى لجمع تلك الطرق والأساليب مكتشفين القوانين العامة للتواصل بين البشر من خلال استعمالهم للغة.
وإذا أردنا أن نحاول أن نضع تصور لماهية التداولية فعلينا أن نعود إلى أصول العلاقة بين اللفظ والمعنى، والناظر إلى التراث اللساني العالمي يلاحظ بوضوح ثنائية اللفظ والمعنى، تلك الظاهرة المطردة في اللغات منذ القدم فـ”في إحدى محاضرات أفلاطون يظهر لنا نقاش لغوي له طابعه الفلسفي بين متحاورين، يدور حوارهما في طبيعة العلاقة بين الأشياء والألفاظ التي تدل عليها أهي علاقة طبيعية أم علاقة عرفية واتفاق بين الناس.
يرى أحد المتحاورين ويُدعى (كراتيلاس) أن اسم الشيء ما هو إلا نتيجة لطبيعة الشيء المسمى، وينبغي أن يكون البناء الصوتي للاسم انعكاسا لبناء الشيء المسمى ومن ثم فالأسماء ليست رموزا للأشياء بل هي جزء لا يتجزء من جوهر المسمى.
أما الثاني ويُدعى (هرموجينس) فينكر الزعم السابق ويرى أن الألفاظَ رموزٌ نستخدمها في التعبير عن الأشياء، والعلاقة بين الألفاظ والأشياء علاقة عرفية قائمة على اتفاق المتحدثين باللغة، وينبني على هذا أن يحدث اختلاف في معاني الألفاظ متى حدث اختلاف في هذا الاتفاق.
ومن المعروف أن أرسطو قال بالعلاقة العرفية بين الألفاظ والأشياء “[68]
تلك المحاجة حول قضية ثنائية اللفظ والمعنى والانقسام حولها نجدها ظاهرة متشعبة الأطراف في تراثنا ما بين فريق ينتصر للفظ كالجاحظ حيث يقول: ” والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والقروي، والبدوي والقروي، إنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك”[69]. وفريق يذهب إلى القول بطبيعية العلاقة بين اللفظ والمعنى كابن رشيق الذي يقول:” اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه… فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه”[70] وفريق ثالث ذهب إلى رفض التفريق بين اللفظ والمعنى كعبد القاهر الجرجاني.
بالنظر إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى والدرس اللغوي القديم عند اليونان والعرب وغيرهم نراهم ركزوا على بعدين في تناول الدلالة وهما اللفظ والمعنى (الدال والمدلول) مكرثين لثنائية العلاقة بين اللفظ والمعنى، وتلك النظرة تعد طبيعية فالإنسان عندما أراد أن يسجل ما يراه بصورة فنية واستخدم الرسم فوجد أنه يستخدم البعدين الأكثر سطحية وبروزا للموجودات من حوله، فبدأ بتصوير الأشياء من حوله معتمدا على رسم بعدي الطول والعرض لتلك الموجودات تلك البساطة في التصوير لا نحكم عليها بصحة أو خطأ في ذاتها – وإنما قد يقع الحكم في التطبيق – فما هي إلا مستوى من مستويات تسجيل صور الموجودات، وكذا اللغوي عندما أراد دراسة الكلمات من حوله درسها على مستوى الصوت والمعجم والصرف، وتناول بعض القضايا حول العلاقة بين اللفظ والمعنى دارات في فلك هذا المستوى الأول فكانت أغلب الأحكام تقول بثنائية العلاقة.
ومع تطور الفكر اللغوي زاد التركيز على دراسة العلاقة بين الألفاظ فيما بينها من علاقات تركيبية ونحوية، والعمل على إيجاد النظام التركيبي للجلمة، والقوانين التي تخضع لها. وهذا ما نجده من تناول الرسام للمنظر الطبيعي كاملا من أرض وشجر وسماء وشمس وحيوانات وطيور في لوحة فنية واحدة متعددة الكيانات والموجودات بداخلها، ومع تعدد تلك الكيانات والموجودات إلا أنها إذا صارت على النسق الفني تخرج لنا لوحة فنية منسجمة.
ومع نضوج قوانين الجملة واتضاح معالمها وأبعادها اتجه الدرس اللغوي إلى دراسة معاني الألفاظ في مستوى جديد حيث تدرس الألفاظ في سياقاتها، مفرقا بين المعنى وصورته كما نلاحظ نضوج هذا المستوى في كتابات عبد القاهر الجرجاني ونقضه لتمييز اللفظ عن المعنى وجعل الأفضلية لصورة المعنى في السياق لا للفظ في ذاتيه؛ حيث يقول:” والذي له صاروا كذلك أنهم حينَ رأَوهم يُفردون (اللفظَ) عن (المعنى) ويجعلونَ له حُسناً على حدةً، ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا: إن منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه، ومنه ما حسن معناه دون لفظه. ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حُسنا ومزيّة ونبلا وشرفا وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة، وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن ذلك رأيا وتدبيرا، وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرضُ وبين (الصورةِ) التي يخرجُ فيها فنسبوا ما كانَ منَ الحُسْنِ والمزيَّة في صورةِ المعنى إلى اللفظِ” [71]
وكما تناول الرسام الكائنات والموجودات من حوله وفق بُعدي الطول والعرض ثم جمعها في لوحة واحدة، بحث عن طريقة لتصوير ما حوله بطريقة أكثر تماثلا وقربا من هيئة الكائن الحقيقي فحاكى الأصل مضيفا بعدا ثالثا جديدا إلا وهو العمق (الارتفاع) ظهر قديما في فن النحت وحديثا في تقنية الرسم (ثلاثي الأبعاد).
وإذا ظهر هذا المستوى جليًّا في دراسات عبد القاهر، ومن بعده في إطار الدرس العربي وخاصة البلاغي؛ فنلاحظ ملامح هذا الاتجاه في الدرس الغربي الحديث، حيث يعد مثلث أوجدن وريتشاردز أيكونة لهذا المستوى في الدرس الغربي حيث ” يريان ضرورة وجود ثلاثة أركان تتضمنها أية علاقة رمزية: العامل الأول: الرمز نفسه وهو في حالتنا هذه عبارة عن الكلمة المنطوقة من سلسلة الأصوات المرتبة ترتيبا معينا ككلمة منضدة، وهذا المحتوى العقلي قد يكون صورة بصرية أو صورة مهزوزة أو حتى مجرد عملية من عمليات الربط الذهني، ويطلق عليه الفكرة أو الربط الذهني، وهناك أخيرا الشيء نفسه الذي ارتبط ذهنيا بشيء آخر.”[72]
وإذا كانت هذه المستويات قد اعتنت بدراسة البنية والتركيب النحوي (الاتجاه الشكلي) ودلالتهما في السياق (الاتجاه التواصلي) فيظهر جليا في تراثنا العربي والدراسات الغربية الحديثة ملامح مستوى جديد متجاوزا مرحلة الدراسة الوصفية إلى مرحلة الدراسة التأثيرية، كما تجاوز مرحلة العلاقة بين الألفاظ وبعضها إلى العلاقة بين الألفاظ ومستعمليها.
فنجد عند سيبويه إمام النحاة يعنون بابا بعنوان (باب الاستقامة من الكلام والإحالة)[73]
يقسم خلاله أحوال الكلام إلى خمسة أقسام:
1- المستقيم الحسن: فقولك: أتيتك أمس وسآتيك غدا، وسآتيك أمس.
2- المحال: فأن تنقض أول كلامك بآخره: فتقول: أتيتك غدا، سآتيك أمس
3- المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر ” ونحوه.
4- المستقيم القبيح: فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدا رأيت، وكي زيدا يأتيك، وأشباه هذا.
5- المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس.[74]
ويلاحظ من خلال هذا التقسيم اعتبار عنصر خارج النص اللغوي وهو (الاستعمال)، فنراه لم يحكم على العنصر الثاني بصدق أو الكذب نظرا لعدم وجود معنى له في الاستعمال إلا إذا كان من باب اختراق قاعدة (الكيف) ويكون بغرض الدعابة أو الاستحالة ونحوها، كما يلاحظ مقبول إدريس ما يطلق عليه (اللحن التداولي) حيث إن العادة جرت ” أن ينسب اللحن (الخطأ) أو يضاف إلى اللغة، ويقصد به غالبا خرق جانبها النحوي أو الصرفي في بعض الأحيان، غير أن هذا اللحن قد يعتري مستويات عدة على جهة التوسع، ومن بينها المستوى التداولي. “[75]
أما ابن جنى فيعتبر (الاستعمال) أحد المبادئ الأساسية الحاكمة على اللغة حيث يرى أن ” الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه” [76].
ففي تعريفه اللغة بكونها ” أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”[77] يلمح دكتور محمود فهمي حجازي ميزتين في هذا التعريف الموسوم بالدقة وهما ” الطبيعة الصوتية للغة، كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر” [78] فيلاحظ في هذا التعريف خمسة محاور يقوم عليها:
1- أصوات.
2- تعابير.
3- أغراض.
4- متكلمون.
5- مستمعون.
فإذا استطعنا ترتيب تلك المحاور المستخلصة من تعريف ابن جني ترتيبا جديدا فنقول: (بالأصوات يعبر المتكلم للمستمع عن أغراضه).
فنلاحظ ربط ابن جني بين اللغة والاستعمال التداولي، وإن وظيفتها هي التعبير عن أغراض المتكلمين للمستمعين فاللغة هي علاقة قائمة بين الألفاظ ومستخدميها، ويؤكد ذلك بقوله: ” اللغة أكثرها جارٍ على المجاز، وقلّما يخرج الشيء منها على الحقيقة… وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها وانتشار أنحائها جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها”.[79]
وكذا حازم القرطاجني يلاحظ لديه الملامح الأساسية للمستوى التداولي بوضوح فقد عنوان بابا في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) بعنوان: “معلم دال على طرق العلم بما ينقسم إليه الشعر بحسب اختلافات أنحاء التخاطب”، يقول فيه:
“لما كان الكلام أولى الأشياء بأن يجعل دليلا على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها بحسب احتياجهم إلى معاونة بعضهم بعضا على تحصيل المنافع وإزاحة المضار وإلى استفادتهم حقائق الأمور وإفادتها وجب أن يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطب، أو الاستفادة منه. إما بأن يلقي إليه لفظا يدل المخاطب إما على تأدية شيء من المتكلم إليه بالفعل أو تأدية معرفة بجميع أحواله أو بعضها بالقول، وإما بأن يلقي إليه لفظا يدله على اقتضاء شيء منه إلى المتكلم بالفعل أو اقتضاء معرفة بجميع أحواله أو بعضها بالقول.
وكان الشيء المؤدى بالقول لا يخلو من أن يكون بينا فيقتصر به على الاقتصاص أو يكون مشتكلا فيؤدى على جهات من: التفصيل والبيان والاستدلال عليه والاحتجاج له.
فكلام المتكلم فيما يؤديه قسمان: قسم يقع فيه الاستدلال، وقسم الاستدلال فيه.
وكلامه فيما يقتضيه من المخاطب قسم واحد في أكثر الأمر؛ لأن الإجابة بالاستدلال أو عدمها في ذلك للمخاطب. وليس ذلك من كلام المتكلم إلا أن يحكي ما دار بينه وبين مخاطبه، فيكون ذلك كالتركيب من القسمين، وليس به على الحقيقة لكون ذلك ليس من كلام واحد.
1- إضاءة: ولا يخلو فيما حكاه من ذلك أن يكون مُسلَّما أو محاجا. فإن كان مُسلَّما فهو الذي أشرنا إليه، وإن كان محاجا كان ذلك من باب المشاجرة. وهو متركب من تأدية المخاطب نقيض ما أداه المتكلم، والمتكلم نقيض ما أداه المخاطب، كما أن باب الإشارة أيضاً مركب من تأدية واقتضاء، لأن المتكلم يؤدي إلى المخاطب رأيه ويقتضي قبوله.
2- تنوير: وجملة ما ينقسم إليه الكلام من جهة ما يقع فيه من تأدية واقتضاء باعتبار البساطة فيهما والتركيب ستة أقسام:
1- تأدية خاصة
2- أو اقتضاء خاصة.
3- أو تأدية واقتضاء معا.
4- وتأديتان من المتكلم والمخاطب.
5- أو اقتضاءان منهما: فكان هذا يكون على جهة من الحيدة بأن يقتضي المتكلم من المخاطب شيئا فيقتضي المخاطب من المتكلم شيئا آخر قل أن يؤدي إلى المتكلم ما اقتضاه.
6- أو يكون مركبا من اقتضاء المتكلم تتبعه تأدية من المخاطب على جهة السؤال والجواب.
فإذا حكى المتكلم كلام المخاطب مع كلامه، أو حكى كلامهما معا غيرهما، وجد الكلام ينقسم على هذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب ستة أقسام”[80]
ومن هذا ومثله تعد دارسة تراث حازم القرطاجني جديرة بالمتابعة في إطار الدرس التداولي فملامح التداولية واضحة المعالم في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) وخاصة وأنها ستخرج بكثير من ملامح التداولية في الدرس العربي التراثي بصورة معمقة وتناول موسَّع.
ويبين الشاطبي أن “كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، بل التفقه في المُعبَّر عنه وما المراد به، هذا لا يرتاب فيه عاقل.”[81] ثم يؤكد أن المعتبر عند الأصوليين في الأحكام هو المعنى في الاستعمال لا الوضع الفردي حيث يقول:” اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام؛ رجعوا إلى اعتباره: كل على اعتبار رَآهُ، أو تأويل ارتضاه؛ فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال، بلا خلاف بيننا وبينهم؛ إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم”[82]
ولم تكن الملامح التداولية عند الشاطبي بهذا الوضوح فحسب؛ بل نراه في تقسيم دالة الألفاظ على المعاني ينطلق من خلفية تداولية واضحة حيث يقول:” للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة.
فالجهة الأولى: هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتَّى له ما أراد من غير كُلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية: فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.”[83]
أما أهل التفسير عندما أرادوا التنظير إلى العلوم التي يحتاجها المفسِّر في تأويل النص القرآني لم يبدأوا بعلوم اللغة من أصوات وصرف ومعجم ونحو وبلاغة أو آداب القارئ والمقرئ؛ بل كانت مقدمة تلك العلوم هي معارف خارج الدرس اللغوي، فها هو السيوطي يصدر تلك العلوم بـ ” معرفة المكي والمدني، معرفة الحضري والسفري، النهاري والليلي، الفراشي والنومي، الأرضي والسمائي، أول ما نزل، آخر ما نزل، أسباب النزول”[84].
تلك الملامح المبثوثة في التراث العربي والمُلاحَظ تَـبَلْور عدد من أبعادها في الدرس اللغوي الغربي المعاصر نستطيع أن نمثِّل لها بهذا الفنان الذي لم يقنع بتنوع الموجودات في لوحاته، وكذا بُعد العمق الذي أضفى على عمله مزيدا من المحاكاة والتَّمَاثُل للأصل المراد تصويره إذ إشكالية هذا الفنان تكمن في رغبته لنقل صورة الحياة في تلك الموجودات، فعمل على تصميم مجموعة من الرسوم لموقف واحد، وقام بعرضها تباعا بطريقة معينة مكونة المشهد عارضا لتلك الموجودات المراد تصويرها في صورة حية وقد عرفت هذه الآلية بـ فن الرسوم المتحركة. هذا أقرب مثال ألحظه للتمثيل للمستوى التداولي.
وخلاصة ما سبق:
إننا أمام أربعة مستويات لدراسة اللغة:
1- المستوى السطحي للبنية اللغوية: ونقوم خلاله بدراسة بنية المفردة بصورة مستقلة عن التركيب النحوي أو السياق التواصلي ويندرج تحته عدد من العلوم منها: الأصوات – المعجم – الصرف.
2- المستوى السطحي للتركيب: ونقوم خلاله بدراسة العلاقة الشكلية بين المفردات في إطار التركيب النحوي للجملة أو النص وتمثل لدينا في الدرس العربي في علم النحو.
3- المستوى العميق للبنية أو التركيب: ونقوم خلاله بدراسة معاني المفردات وتطورها التاريخي ومعناها داخل السياق التواصلي وما عليه من حقيقة أو مجاز وعدد من قضايا تتعلق بمعاني الألفاظ كالترادف والمشترك اللفظي والأضداد وهو ما عرف بعلم الدلالة.
4-المستوى الاستعمالي (فوق شكلي): ونقوم خلاله بدراسة العلاقة بين المفردات ومستعمليها، في إطار العلاقة بين المتكلم والمخاطب المستعملين للغة سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية والظروف المحيطة بهم.
وإذا كانت التداولية قسيما لمستويات البنية والتركيب كما تذهب إليه المدرسة الأنجلو أمريكية إلا أن الدرس التداولي أثبت أنه درس شديد الاتساع يتناول الجوانب النفسية والاجتماعية ويخدم اللسانيات التطبيقية كما تذهب إليه المدرسة الأوربية.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/126538/#ixzz5Tq60fUKM