أنمــــاط التشذيـــر في القصة القصيرة جدا وجوه مشروخة لعبد الرحيم التدلاوي نموذجا

بقلم الدكتور جمال حمداوي

اخترت لكم هذه الموضوع الشائق حول أنماط التشذير في القصة القصيرة جدا في ” وجوه مشروخة لعبد الرحيم التلاوي”، بقلم الناقد المغربي الدكتور جميل حمدواي، أرجو ينال إعجابكم وأن تجدوا ضالتكم فيه.
—————————————————————————————————————————————–

تتكئ القصة القصيرة جدا على مجموعة من المقومات الفنية والجمالية والدلالية، مثل: رصد الذاتي والموضوعي والميتاسردي، وتوظيف الحكائية، وتشغيل الحجم القصير جدا، والتوسل بمجموعة من الأدوات التعبيرية، مثل: الإدهاش، والمفارقة، والإرباك، والسخرية، والتكثيف، والحذف، والإضمار، وانتقاء الأوصاف، وتنويع الصور السردية، وسميأة علامات الترقيم، والتفنن في تشكيل الفضاء المعماري للنص القصصي القصير جدا تنويعا وتنميطا وتجويدا.

ومن جهة أخرى، يمكن الحديث عن أنواع من جنس القصة القصيرة جدا، كالقصة المجنسة ذات البناء الكلاسيكي، والقصة التجريبية التي تمتح آلياتها السردية من تقنيات القصة الغربية، والقصة التأصيلية أو التراثية التي تستفيد من الموروث السردي العربي القديم. بيد أن هناك نوعا آخر من الكتابة السردية داخل نسق القصة القصيرة جدا وهي القصة الشذرية. وتتسم بالتقطيع، والتجزيء، والتشذير، والتفصيل، والتركيز، والتوليد، مع استعمال الفواصل والمقاطع والفقرات البصرية المبأرة، والارتكان إلى الاختزال وتكثيف الوحدات القصصية بشكل من الأشكال.إذاً، ماهي خصائص الكتابة الشذرية في مجموعة (وجوه مشروخة) لعبد الرحيم التدلاوي موضوعا وبناء ومقصدية؟

التشذيــــر البصــــري:

تعتمد الكتابة الشذرية على تقطيع النص الكلي إلى وحدات أو فقرات أو مقاطع أو قصيصات مستقلة بفواصل بصرية وفضائية. بمعنى أن الشذرات لها استقلالية تامة على مستوى الكتابة والتموضع البصري. ومن ثم، فهناك كتابة قصصية يعقبها الفراغ، وكلام يخلفه الصمت، وسواد يليه البياض.

ومن يتأمل – مثلا- قصة (أحلام منتصف النهار)، فهي تتكون من ست قصصيات مستقلة بصريا، يعتمد التقسيم فيها على ترقيم القصص تباعا ، وبشكل متسلسل، للدلالة على مدى اختزالها و انفصالها واستقلالها. ومن ثم، تعتمد الكتابة الشذرية في هذه القصة على آلية التقطيع البصري، وآلية الترقيم، وآلية التشذير ، وآلية التشظي. ويلاحظ على هذه القصة أنها متسقة ومنسجمة على مستوى الدلالة الموضوعاتية الكلية، حيث تحضر في هذه القصص المتناسلة، التي تتوالد عن النواة الكلية أو البؤرة الجوهرية، تيمات رئيسة ألا وهي: الطبيعة، والحب، والأفق، والتلوث. بمعنى أن القصص الشذرية القصيرة جدا قد تتوفر – من جهة- على وحدة دلالية كلية. ومن جهة أخرى، قد تعدمها في قصص أخرى، إذا اتخذت بعدا فلسفيا قائما على التخييل، والتجريد، وتعميق الأفكار، وخلق التصورات الذهنية الممكنة والمحتملة، كما يبدو ذلك بينا في القصة الشذرية (تهاو 1و2).

علاوة على ذلك، يلاحظ أن الكتابة الشذرية في قصة (أحلام منتصف النهار) تقترب من الكتابة الشعرية أو من شعر التكسير أو من شعر المقاطع أو من القصيدة النثرية، وذلك على مستوى الكتابة والترصيف والتصفيف الأيقوني البصري والسيميائي. وهنا، تلغى الحدود والحواجز بين جنسي الكتابة الشذرية والشعر. بمعنى أن الشعر هو بمثابة آلية من آليات الكتابة الشذرية على مستوى التموضع الفضائي والانكتاب البصري:

“أحلام منتصف النهار

1-
نظرا إلى الأفق..
خضباه بخفق قلبيهما..
وبريش العصافير رسماه..
لما عادا..
وجدا شاحنات وغبارا..
2-
رسما الأفق بريش العصافير المحلقة عند المساء
وبحمرة اعتلت خديهما تخضب الأفق
باعد صدره عنها
كبح جماح تقدمهما غبار تركته الشاحنات المغادرة..
3-
أسلما قلبيهما لأجنحة العصافير
تحلق بالخفقات إلى حدود الزرقة الأبدية
وحين ارتخت الأجنحة لترتاح قليلا
سقط ثوب الزرقة في بركة من رماد
4-
لمّا عاد بهما الشوق إلى مرج الذكريات: يومَ احتضن خطّ الأفق قلبيهما
فخضباه بالحبّ والأمنيات ..
وجداه.. وقد امتلأ بالغبار !
5-
تسطبغ السماء ببتلات قلبيهما…. هاما بالقمر والنجوم… أفاقا على
ضجيج وعطاس مغبر.
6-
نظرا إلى أفق يصدح عند نار تشتد فلا تقحم.. خضباه بخفق قلبيهما ..
تكور عند شمس الأصيل مطرا من شوق لا يرحم ..”#

وعليه، فقد تضم القصة الشذرية في بنيتها الفضائية والنصية نصين فقط، مثل: قصة (خريف)، أو نصوصا عدة، مثل: قصة (أحلام منتصف النهار) التي تتكون من ست قصيصات مختزلة ومضمرة. كما تتميز النصوص الشذرية باستعمال نقط الحذف الدالة على الصمت والفراغ والبياض من ناحية، والدالة على الإضمار والتكثيف من ناحية أخرى.

التشذيـــر الموضوعاتي:

تتنوع تيمات القصص الشذرية على المستوى الموضوعاتي في مجموعة (وجوه مشروخة) لعبد الرحيم التدلاوي، فهناك ما يتعلق بماهو ذاتي (انغماس الكاتب في عوالم حلمية وفانطاستيكية)، ومنها ماهو موضوعي وواقعي (جدلية السيد والعبد)، ومنها ما هو ميتاسردي يهتم بعوالم الكتابة والقص(جدلية الحياة والكتابة)، وفضح أسرارها المختلفة، واستكشاف لاوعيها الفني والإبداعي :

1
“سقطت
رأيتني صاحب كرامات..
جاءني عبدي يشتكي الضيق وسوء الحال، ويرجو مني حسن المآل..
كان يكتب ليعيش..
صيرته يعيش ليكتب..
انتفخ
رصيده
قصصا..!
2
جاءتني أمتي، على استحياء، تشكو قبحها، ونفور العرسان منها..
صيرتها فاتنة..
انشغلت بتملي نفسها في المرآة.. عن طرق الباب..
جاءتني أمتي الأخرى، ترجو عريسا، قبل أن تصبح عانسااااااا
أعطيتها ريشة، وقلت لها: ارسميه..
رسمت العينين، وبقيت حائرة في اختيار اللون..
تركتها تقرر..
3
وأخرى
حين رسمت الوجه، حار الناس في أمر تحديد جنسه: أذكر هو أم أنثى..؟!
أطبقت الجوكندا فمها، وظل الجواب معلقا..
جاءني عبدي، يشكو سوء معاملة سيده له..
صيرته سيدا، والسيد عبدا..
فما تحسنت المعاملة..
تركت أمرهم موكولا بينهم..
….
نهضت مفزوعا، تحسست أطرافي، حينها علمت أنني لم أكن إلا حالما..
…. …………………………………………..”#

هذا، ويتمثل الكاتب في هذه القصة الشذرية العوالم الفانطاستيكية تغريبا وتعجيبا، وينهل من معين التصوف والعرفان من ناحية، والتشديد على الميتاقص أو الميتاسرد من ناحية أخرى. علاوة على ذلك، يستوحي الكاتب جدلية السيد والعبد، والصراع الجدلي بين الأنا والآخر لدى الفيلسوف الألماني هيجل، ويلبسها سياقات صوفية وعرفانية وفلسفية وواقعية، وذلك في قالب السخرية والتناص والمفارقة والرمزية الموحية. كما يركز الكاتب على الاستبطان الذاتي في تصوير الذات الأنثوية التي تتقلب في صورها الواعية واللاواعية رغبة ونفورا.

التشذير الفني والجمالي:

تمتاز الكتابة الشذرية بخاصية الكلية الدلالية والذهنية والوحدة العضوية والموضوعية، علاوة على استقلالية كل مقطع أو فقرة بدلالة معينة تتوالد من بؤرة النص الكلي. كما تمتاز القصص الشذرية القصيرة جدا بآلية التخييل، والعمق الفكري، والانسياق وراء التجريد، وتوظيف التناص والإحالات المعرفية، بله عن استخدام الصور السردية من تشبيه، واستعارة، وتشخيص، وتجسيد، وكناية، ورمز…ونلاحظ في قصة (خريف) ثنائية الجوهر والعرض التي ناقشها الفلاسفة والمناطقة قديما وحديثا، لاسيما أرسطو الذي حصر الواقعي في الثابت والجوهر:

“خريف
1-
كانت تعشق الطبيعة
عندما آن الرحيل
جلست تودع الحياة
تحت الشجرة
مرت عليها الفصول الأربعة
في نضارة الربيع تعلقت بها قليلا
في حر الصيف سرى فيها بعض الدفء
في ذبول الخريف بدأت تتساقط
في صقيع الشتاء نقلت إلى ثلاجة الموتى
——————
2-
تحتضن الباقة كل صباح
تبدو متزينة في أزهى حللها
تسري نبضات الزهرعبر الماء إلى أحضانها
تشعر بثبات فوق المنضدة
حين امتلأت بزهور زائفة
لم تلمس دفئا في أوصالها
لا نبضات، لا ماء، لا أحضان
ارتعشت”#
هذا، وتتوفر القصص الشذرية على معظم الخصائص التي تمتاز بها القصة القصيرة جدا، مثل: الحكائية، والحجم القصصي القصير جدا، وتنويع الفضاء المعماري، وانتقاء الأوصاف، والتوسل بلغة التكثيف والإضمار والحذف، وتوظيف الجمل الفعلية، واستخدام التراكيب الحدثية الديناميكية، كما يبدو ذلك واضحا في قصة (تهاو):
” تهاو 1و 2
-1
مجهدا، قام الجدار ليسند أخاه.. لم يستطع تحمل ثقله.. فتراقصا رقص
الديك المذبوح..
فرت الشمس بعيدا فرقا من صداع..
تحت الترب رقد رجل نحيف، وفي مقلتيه صورة طفل لم يغادر ثدي أمه
الضامر..
-2
خرجت من قلبي الحزين..
دخلت فؤاد الحبيبة الأمين..
فاخضر قلبي.”

ومن جهة أخرى، تمتاز الكتابة الشذرية بالتناص والتضمين، واستغلال العلامات الإحالية والمعرفة الخلفية لتبليغ المرامي المباشرة وغير المباشرة، وتوصيل المقاصد القريبة والبعيدة، كما يبدو ذلك جليا في قصة (الشاعر والمدينة في صورتين)، التي يقابل فيها الكاتب بين عالم الفلاسفة القائم على العقل والمنطق، وعالم الشعراء المبني على الحب والمودة:

” النص الأول

أسس الشعراء المنبوذون من المدينة الفاضلة مدينتهم الخاصة، وأسموها مدينة الحب. حج إليها بعض قومهم سرا، وعندما علم أفلاطون؛ احتجز زوجاتهم
ومنعهم من ممارسة الحب..

النص الثاني

سمح أفلاطون لأحد الشعراء، بزيارة أمه المريضة، في المدينة الفاضلة.
عندما دخلها التف حوله الغوغاء مهللين: الملعون.. المجنون .
استاء أحد أقاربه، وخرج يناشدهم: أرجعوا السكينة، لأم مسكينة باتت
حزينة، منذ ترك المدينة. اعتبروه شاعرا مثله، واقتادوهما خارج المدينة..”#

هنا، تتحول القصص الشذرية القصيرة جدا إلى نصوص متداخلة ومتناسلة توليدا وانصهارا وانبثاقا لتشكل لحمة دلالية كلية، معلنة مدى المفارقة الموجودة بين عالم الفلاسفة وعالم الشعراء، أو من أجل تبيان طبيعة الهوة الفاصلة بين العقل والقلب.

تركيب واستنتاج:

وخلاصة القول: إن الكتابة الشذرية ظاهرة بارزة في مجموعة (وجوه مشروخة) لعبد الرحيم التدلاوي، ودلالة ذلك أن الكاتب يعبر عن واقع مشروخ، وذات ممزقة، وكتابة متشظية. ومن ثم، فالكتابة الشذرية خاصية فنية وجمالية حديثة لتشويه الواقع وتعييره وتقديمه في صور كاريكاتورية ساخرة ومفارقة ورمزية. وبالتالي، تعتمد الكتابة الشذرية عند الكاتب على مجموعة من الآليات، مثل: آلية التقطيع، وآلية الترقيم، وآلية التشذير، وآلية التشظي، وآلية التخييل، وآلية التوليد والتناسل…

ومن ثم، فعبد الرحيم التدلاوي كاتب قصصي متميز في أضمومته (وجوه مشروخة)، يحسن التحكم في دفة الكتابة تجريبا وتفننا وتجويدا، ويمكن وضعه ضمن طبقة المبدعين المحترفين في مجال القصة القصيرة جدا بالمغرب، إلى جانب كل من: مصطفى لغتيري، وجمال الدين الخضيري، وميمون حرش، وعبد الله المتقي، والسعدية باحدة، والزهرة رميج، وحسن برطال، وعز الدين الماعزي، وإسماعيل البويحياوي، وحسن البقالي…

القراءة من المصدرhttp://www.diwanalarab.com/spip.php?article36667

Exit mobile version